أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"صياح" عاطفي سوري .. على مزابل أوروبا*

أرشيف

في درس اللغة وكان الموضوع "كيف نتعلّم فرز النفايات" سألتني الأوروبيّة الشقراء: في بلدكم هل ترمون النفايات في الشارع؟.

ولأن في نفسي "بعض جاهليّة"، وإيمان بأن "كل ديك على مزبلتو صيّاح" وفق المثل العامي الدّارج في البلد، لم تحضر إجابة "لا" في ذهني، فقلت لها ـ مستخدماً ما أمكن من مفردات فرنسية ـ: هل لكِ أن تتخيلي كيف يعيش أبناء بلدي في دمشق وحلب مثلاً وعمر الأولى أكثر من سبعة آلاف عام والثانية يزيد عمرها عن التسعة، آلاف، وكعادتي استفزّني كل التاريخ، وهي تخاطبني وأمامها كتيب إرشادي يتحدث عن خمسة أنواع من النفايات، وعن ألوان أكياسها الأصفر والأخضر والأسود، تحدثت لها عن الإنسان الأوّل في إدلب، عن القمح الذي أخرج الحضارة قبل أربعين ألف عام، عن زنوبيا التي انتحرت بالسمّ رفضاً، للهزيمة.

قلت إن دمشق لا تعترف بتكنولوجيا النفايات، لكنّكِ لن تخطئي رائحة الياسمين وأنت تعبّين من هوائها المترف .. هنا في هذه المدينة ملأ كل عشاقِ الأرض صدورهم قبل أن يرحلوا .. وهنا كان نبع العطر كلما نضحت منه الروح عَذُب.

كيف أحدثك عن عطر الغار في أسواق حلب، عن السوسن في حمص، عن الزعتر في حوران.. عن الزيتون وزهر الرّمّان في إدلب.. أتعلمين يا سيدتي أن أول صابونة سافرت إليكم كانت من حلب، عندما حملها "ابن فضلان" قبل مئات السنين احتفلتم بها كواحدة من العجائب.

لن أكذب عليكم، فأنا أروي شيئاً مما دار بيننا وكثيراً ممّا جال في خاطري.. وتابعت في حوار غير متكافئ منطقياً مع تلك السيدة التي تقتل بعض وقتها في تعليم الغرباء: 
في بلادي فقط تقتلنا النفايات التي جلبتموها، السلاح والحديد والطغاة.

نعم، يحق لك أن تستغربي ما أقول فأنت لا تعلمين من نحن.. نحن أربعة فصول في اليوم بردٌ في جبل الشيخ، وربيعٌ في درعا، وخريف في الغوطة، وصيف في تدمر.
نحن شعراءُ، وعشاقٌ، ورجال دينٍ وكفرة.

نحن ألف ملّة ومذهب وقومية، عرب وكورد، وتركمان، وكلدان، وآشوريون، وسيريان، وداخل كلّ ملة وقومية لدينا ألف لون ولون، لهجات ولغات، حتى الموت عندنا له لهجات كما الفرح. 

نحن ألف حجرة متنافرةٍ يجمعها بيتٌ بفناء واحد، نحن آلاف النُسخِ، عندنا ولد حاكم روما فيليب العربي، وعندنا أبولودور الدمشقيّ سيّد العمارة والفنّ، عندنا زنوبيا، وبطرس النبي الذي أورق المسيح على لسانه، والأمويّون الذين ملأوا الأرض بالزرع حتى قال أحدُ خلفائهم عمر بن عبد العزيز: انثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طيرٌ في بلاد المسلمين" وبلاد المسلمين التي عناها يا سيدتي كانت تمتد وقتها من الهند والسند إلى جنوب فرنسا.

قالت لي: لكن عندكم بشار الأسد وصدّام حسين وآخرون.. وموضوعنا هو النفايات.
أجبت: ومع كل ما سبق ليس عندنا من يرمي بقاياه في الشارع.. عندنا نفايات ننتظر أن نكنسها بيدَ أن الحربَ غيرت شكل النفايات عندنا اليوم، ليست لدينا قشور موز وبرتقال فقد أكل الجياع حتى العشب، وليس لدينا فائض ثياب وأطفالنا يلبسون أسمالهم منذ أربعة أعوام، أما الكبار فيرحلون بما يرتدون فنحن ندفن الشهداء بثيابهم... نفاياتنا اليوم هي فائض الموت بحديدكم وصمتكم، وفائض الأوغاد الذين استقبلتموهم بحرّاس الشرف واحتفلتم معهم بأعياد استقلالكم ثم تركتموهم لنا.... سنكنسهم وسنعود نكتب ونعمل ونعشق ونعبُّ عطر الياسمين والغار.

أرجعتني الشقراء إلى حظيرة الدّرس.. شعرت أننّي أتفوق عليها، كما يتفوق رجل دينٍ أو ذكرٌ شرقيٌ على زوجته أو إحدى "ولاياه".. كان انتصاراً مذلّاً لي وليس لها، لأنني استخدمت التاريخ واللّغة فيما كانت هي تمنحني مع بعض المهاجرين جزءاً من وقتها لنتعلم لغة بلادها، ببساطة وحسب الحاجة.

انتهى الدرس .. خرجت السيدة سعيدة لتنتقل إلى مجموعة أخرى من الطلاب الأجانب.. وخرجت أنا حزيناً أبحث في ذاكرتي عن كلّ ما يمكن أن يوجعها... تماماً مثل ديكٍ بلا "مزبلة".

*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
(177)    هل أعجبتك المقالة (221)

مواطن

2016-10-26

يا أخي شوف كلامك صح وغلط... أولا تاريخ سورية ليس له علاقة بحاضر سورية، والمزايدة على تاريخ سورية غلط، إذا كانوا السوريين متحضرين فليثبتوا ذلك. ثانيا يكفيك أن تدخل إلى حمام عام واحد لتنسى جميع الروائح الطيبة التي تفضلت بذكرها.


سوزان سالمة

2016-10-26

إلى من يناقش إن كنا نرمي الزبالة أم لا ... المقال عاطفي بحسب العنوان . وهو مقال مميز يعبر عن سيكولوجيا الإنسان السوري بفنية مميزة.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي