لم تكن الحكومات السورية ووزراؤها منذ انتهاء العهد "الديمقراطي" تملك من أمرها شيئاً وخصوصاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، سواء أكانت تلك الوزارات سيادية كالخارجية والدفاع والاقتصاد أم خدمية كالإدارة المحلية والبيئة وغيرها، وكثيرا ما تندر السوريون على رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي لعدم امتلاكه من الأمر شيئاً، وكذا وزير الدفاع مصطفى طلاس ويروى عنه قوله إنه لم يكن يملك الاستقلالية والقدرة على نقل جندي من قطعة عسكرية إلى أخرى دون أمر أو موافقة من الدائرة الرئاسية الضيقة وقوامها عتاة قادة الأجهزة الأمنية وأفراد العائلة الحاكمة وانضم إليهم بشكل مكشوف في سنوات الثورة ممثلو إيران.
وكان نفوذ الوزير يزداد ويتقلص ضمن هامش معين بقدر قربه وبعده من تلك الدائرة فغازي كنعان على سبيل المثال أعطى "قوة" لوزارة الداخلية عندما كلف بحقيبتها بعد إعفائه من مهمته في لبنان، وقد تكون خشية تلك الدائرة من نفوذ كنعان هي ما دفعت لأن "ينحروه" وربما لأسباب أخرى تتعلق بالملف اللبناني.
ولا يمكن تجاهل دور شخصية الوزير نفسه في نسبة الخضوع للدائرة الحاكمة، وكذلك المستوى المعرفي له ومدى ارتباط وزارته بتخصصه، فمثلا شكل وزير الاقتصاد عصام الزعيم حالة استثنائية في فترة من الفترات تسببت هي الأخرى في خروجه من الوزارة بتهم فساد، أما وزير الإعلام الأسبق محسن بلال الذي عرف في أوساط وزارة الإعلام بـ "أبو صفيرة" فيملك شهادة في الطب، ولم يمارس العمل الإعلامي.
ولقب "أبو صفيرة" مصدره أن بلال كان من عادته أن يسير في أروقة وزارة الإعلام ويًصفر "يطلق الهواء من فمه مدندنا" مع حركة التلويح بميدالية مفاتيح في يده.
حقيقة لم أكن أعلم ذلك إلا بعد أن حصل معي موقف خلال عملي في مكتب صحفي –كنت الموظف الوحيد- يغطي لوكالة أنباء عربية وصحيفتين يوميتين عربيتين معروفتين وكانت تدير المكتب إحدى المتنفذات، وطلبت مني أن أجري لقاء مع "أبو صفيرة"، هكذا لفظت الاسم، في لحظتها اعتقدت أنها تقصد رئيس الوزراء في حينه محمد ناجي عطري الذي كان ينطق حرف السين مصحوبا بالهواء، ولعل بعض زملاء المهنة يتذكرون ذلك جيدا، فقلت ممازحا "ماعندو شي يحكيه" فكان جوابها "انت اعملها سين جيم" أي أنني سأطرح الأسئلة وسأجيب عليها بنفسي نيابة عن "أبو صفيرة"، كان ذلك أهون علي بكثير من مغبة لقاء أعرف ما سيقول فيه سلفا، ولن يوقع عليه باسمي، وربما كان ذلك شكل من أشكال الفساد، المهم أنني ألفت اللقاء وأنا استمع لفريد الأطرش ونشر في واحدة من الصحيفتين مع ملخص لوكالة الأنباء، دون أن يدري العطري الذي تبين فيما بعد أنه ليس "أبو صفيرة" الحقيقي.
لا يبدو أن حالة الوزير "أبو صفيرة" أمراً استثنائيا في سورية الموالاة والمعارضة على حد سواء، وإن اختلفت هذه المسألة في شكلها فهي تحمل هزلية المضمون نفسه، إلا أن ثمة فارقا وهو أن التمرد وإعلان الموقف الرجولي الحقيقي ضمن أطر النظام قد يكلف صاحبه حياته، بينما يمنحه في مؤسسات الثورة شرفا لم ينله أحد بعد.
* من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية