كانت الطائرات تقصف بعنف، هناك شرقيّ حلب.. الأطفال يصعدون ـ بالعشرات ـ إلى السماء، ووجوههم معفرة بغبار الردم، وكثيرٌ منهم أيضاً صعدوا دون وجوه، فالنابلم والفوسفور في تلك المدينة لا يرحم، وهو يفعل كذلك في غوطة دمشق، فالروس مصرّون على إنهاء ظاهرة الإرهاب في سوريا، ومن الطبيعي أن يموت عشر مدنيين في كل صاروخ يستهدف مقاتلاً، هي طبيعة المعركة كما يقول المحتلّ الروسي.
على مسافة قريبة من الغوطة حيث ساحة الأمويين، يمكنك أن تسمع أصوات البراميل المتفجرة وقنابل الفسفور، ويمكنك مشاهدة نار تلك الصواريخ والقنابل ليلا، هناك .. يتجمع سوريون أيضاً يعفرون وجوههم بالبودرة الملونة، وليس بغبار الردم، يمدّون ألسنتهم، ويتغاوون ويرقصون، ولأنّ الرقص نمط حياة فهو ليس المشكلة، لكن اشتهاء الرقص على وجع الشقيق السوري والتشفي بموته هو المشكلة الأكثر إيلاماً.. "جنّوا نطّوا" التي لا يفهم مخلوق على وجه الأرض معناها، هي ثقافة من يحاول أن يدفع التهمة عن القاتل، ويشارك في الجريمة بالقول، نحن مع قتل البقية لأنهم إرهابيون، أما نحن فانظروا إلى عرينا، انظروا إلينا كيف نخرج إلى الشوارع بلباس متحضّر منفتح، نتشابك ونتشارك و"نتسافد" مثل قطط الليل.
ومرة أخرى ليس العري مشكلة، بقدر إيمان هؤلاء بأنهم يوجهون رسائل إلى العالم، يعتقدون فيها أن الحضارة مجرّد صدرٍ "ينلدلق" تحت قطعة قماش شفافة، أو سروال جينز يحافظ خصره على مسافة من "التيشرت" لتظهر "السرّة" المدنية الديمقراطية.
هؤلاء البائسون يحتمون بفكرة خاطئة عن الحضارة، وعن الإنسانية، ويقدمون نموذجاً صارخاً لحجم الشرخ الأفقي ـ الشاقولي في سوريا، والمعيار عندهم في غير مكان، في غير ثقافة وفي ضمير يعتقد أن الحرب ستنتهي عندما نقدّم الآخر ولو كان طفلاً على أنه مشروع إرهابيّ، وأن البديل هو قنبلة فسفورية ورئيس يلبس حذاءً و"بدلة" من ماركة غربية، ويظهر على قنوات الغرب، ثم يغوص في فلسفة شرح الفرق بين الآخر الشيطان بقضّه وقضيضه، والأنا المدني الشرعي بعجري وبجري.
وزاد على رسالة "خفّف ملابسك" وغناء "جنّوا نطّوا"، رسالة أخرى في اتجاه غير مفهوم، حيث يحرض هؤلاء على شتم وتحقير كل من ينتقد حلفهم مع الميليشيا المذهبية القادمة من خلف الحدود، رغم أن مهرجانات "النص كمّ" توازيها مهرجانات تضبيرٍ ولطم وشجّ رؤوس، في السيدة زينب بريف دمشق، إذا يقسم "الرواديد" أن حكم "يزيد" لن يعود ولو "سقط مليار شهيد".. ونحن يا سادة براء من دم الحسين، ولا لنا في الأمر ناقة ولا جمل، ولا نريد الحفظ لا على حكم يزيد ولا حكم بشار.
كيف يمكن أن تكون بهلواناً في العزف على وتر التمدّن والتحضّر والانفتاح "من الزنار ونازل" وفي نفس الوقت تكون حليفاً لمن يقاتلون من أجل مظالم دينية عمرها 1400 عام، ولا أحد يعلم كيف ومن أرّخ لها ونسب السوريين إلى أحفاد يزيد والإيرانيين والأفغان إلى أحفاد زينب والحسين وعلي.
وما دخل صراعكم مع أبي بكر وعمر وعائشة بصراع السوريين من أجل حرّيتهم .. وبالمناسبة وعلى ذكر عائشة والتي "يدلّعها" السوريون "عيوش"، شاهدت بمنتهى السعادة صور السوريّة نهلة عيوش التي تدير مخيّماً للاجئين السوريين في "عرسال" شمال لبنان، السوريون الذين تم طردهم وتهجيرهم من القصير بريف حمص الغربي ليستوطن فيها المدافعون عن الحسين والمراقد، سوريون هربوا من اللبنانيين إلى لبنان .. ثم أصبحوا خطراً ديموغرافياً على بلاد الأرز .. فيتم حصارهم وتجويعهم وقتلهم بسكين الخوف من الإرهاب .. ولعل من أغرب ما قرأت في اليوميين الماضيين أيضاً هو أن يصبح السوري مداناً إن مارس الجنس مع زوجته وأنجبا أطفالاً يمكن أن يكونوا عرضة للتشرد كما جاء بقلم "سينتيا سركيس".. لقد ترك العالم أطفالنا تموت ونسي أن ميليشيات حزب الله وداعش وأبو الفضل والنجباء والفاطميون جاؤوا من كل أصقاع الأرض ليحتلوا بلادنا ويقيموا فيها شرع الله .. وليحكموا بالعدل ويعيدوا أمجاد آل البيت .. ونسي هذا العالم "زبالته" و"حراميّته" من بغداد إلى لبنان إلى موسكو إلى قصر المهاجرين .. نسي كلّ هذا وبات مشغولاً ببطون السوريات.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية