ربما لا يعرف كثيرون أن مهمة أنور رجا، منذ بداية الثورة السورية في 2011، تمثلت في تكوين وعي زائف وتضليل كبيرين على صعيد شرعنة الارتزاق باسم فلسطين.
اليوم وبعد 5 سنوات على افتضاح مهمة حصر القضية الفلسطينية في عقل وعمل الجبهة الشعبية -القيادة العامة، في ما يشبه سعي "حزب الله"، إلى تكوين انتماء لملالي طهران باسم القدس، يقف المرء على الأقل ممن يصدقون بأن طرقات القدس تمر على أنقاض دمار المدن والقرى السورية، غير مندهش لهذا الإسفاف الذي وصل إليه أنور رجا، كممثل لشريحة "الارتزاق الفلسطيني" و أصحاب "تأجير البنادق الثورية" و"رفع الصوت عمالة"، في الادعاء بغير ما دلت عليه 5 أعوام من قتل الشعب السوري والفلسطيني بأيدي من يدعون فعلتهم الجبانة باسم فلسطين مرة ثانية. منطق الأمور واضح لا يحتاج لكثير من الاستدلالات التي يعرفها أي فلسطيني حر في وطنه والشتات. فماذا فعلت القيادة العامة، وبقية الجمع من معسكر الصراخ عن المؤامرة الصهيونية في الربيع العربي؟ طلقة واحدة لم يطلقها رجال جبريل في فلسطين، وطارق الخضرا وجيش "التحرير" يقدم قرابين في الغوطة وعدرا يعرفان بأن مخيم اليرموك أقرب كثيرا من الزج بالمئات من المجندين قتلا في أتون جغرافيا غير تلك التي يدعون.
في المعادلة الأبسط ثمة سؤال آخر، ولم يعد مجديا بعد 6 سنوات من بدء الثورات العربية مجادلة من وضع عقله على مسار "المؤامرة الكونية" تبريرا لتخاذله عن نصرة شعب سوريا، إذ كيف يمكن أن يكون "الثوريون" ادعاءً (يسارا ووطنيا إسلاميا) في معسكر القمع والديكتاتورية ويضعون فلسطين في أواني التبريرات؟ ثمة تخاذل مسكوت عنه فلسطينيا.
قد لا يذهب سوى بضعة ممن وعوا من البداية هذا الفخ إلى التحذير من إساءة كبرى وقعت باسم فلسطين والفلسطينيين (وسمي هؤلاء متآمرون على سوريا، ويا للعجب!).
فلا "جبهة المثقفين" ولا "جبهات التحرير وحركاتها" قالت يوما لحسن نصر الله وغيره:" لا تبتذلوا فلسطين إلى هذا المستوى، أنتم غرقتم بالدم السوري بعيدا عن كذبة فلسطين!". حالة الصمت، التي شذت عنها أصوات خافتة، خلفت كارثة حقيقية نرى تجلياتها اليوم، وأبعادها المستقبلية لا تبشر، إذا لم يصحح، هؤلاء الرسميون على الأقل، ذلك الابتذال الذي صرخ به نصر الله أكثر من مرة. إن ربط بقاء أو موت القضية الفلسطينية بديكتاتور سفاح، يقتل ويهجر ويتحالف مع أردأ الميليشيات الطائفية، التي قتلت بالمناسبة وهجرت الفلسطينيين من بغداد إلى البرازيل، هو ليس سقوطا أخلاقيا مريعا فحسب. إنه واحد من أبشع الأوقات التي عاشتها لحظات المتاجرة بفلسطين.
نعم المتاجرة تماما، حين تنتدب سلطة "وزيرا" منذ أعوام لحل مشكلة مخيم اليرموك، فيقوم الوزير المولود في دمشق بدفع "بدل خدمة العلم" أموالا لصندوق جيش بشار الذي قتل من الفلسطينيين وهجر بأكثر مما فعل الاحتلال خلال السنوات الست الماضية. انبرى أنور رجا، و"يسار" مدع، منذ انطلاق الثورة السورية إلى العمل كمماسح للدم عن أيدي القتلة.
لم يتجرأ واحد من "الثوريين" على رد كلام بثينة شعبان وخالد العبود (2011) في اتهام الفلسطينيين "الملثمين" في درعا ومخيم الرمل الفلسطيني في اللاذقية. لم يرد هؤلاء يوما على محاصرة اليرموك وقصف خان الشيح واعتقال واعدام كل من عمل حتى عملا إغاثيا، سواء كان طبيبا أم طاه للطعام في مدارس اليرموك. يعلم رجا وبقية من يشبهه في فصائل "اليسار" و"الإسلاميين الجهاديين" تلك الأكاذيب التي تساق عن طريق القدس، لكن أحدا منهم لم يتجرأ، حتى بعد أن بان سُخف التبرير، على قول الحقيقة المرة: "نظام الأسد ليس مثله أفضل لإسرائيل.." باعتراف قادة وصحف الاحتلال. وبعظمة لسان رامي مخلوف وضيوف قناة "الدنيا". يعلم هؤلاء منطق التاريخ، وبنية وتركيبة المجتمع السوري.
ورغم ذلك ذهبوا بأكاذيبهم إلى: "في سوريا تساو بين الفلسطيني والسوري..". مساواة تُرد كذبا إلى نظام آل الأسد، وهي كذبة أخرى من بين مئات الأكاذيب... فلا منية لآل الأسد في ذلك القانون السوري منذ الخمسينات... المنية الوحيدة التي يعرفها كثيرون من بين الفلسطينيين، وأصدقائهم السوريين في الثورة الفلسطينية، كانت تعرف حين يدخلون إلى "فرع فلسطين" للاستخبارات... فبعد حفلات الصفع وشتم فلسطين يقول لك كبيرهم وصغيرهم:" نحن سمينا هذا الفرع تيمنا بفلسطين...". ويعلم من مر عليه أي بشاعة وأي دناءة وانحطاط في هذا المسلخ... ورغم ذلك يصمتون صمت القبور.
من غير المفهوم إطلاقا على "حركة تحرر وطني" كيف تستقيل من دورها، بفصائلها ومثقفيها ونخبها، عن هذا الذي يجري... هل كان جورج حبش وأبو عمار (الذي طرد من سوريا 1983 وقام حسن نصر الله بالتحريض على قتله علانية بطلب إسلامبولي فلسطيني) وأبو جهاد وأبو إياد وغسان كنفاني وناجي العلي ومحمود درويش، وغيرهم، سيصمتون على تكرار تل الزعتر والبارد والبداوي ألف مرة؟ أخيرا وليس آخرا، الأسئلة التي يراها البعض مهينة هي الحقيقة المرة... نحن نعيد منذ 60 سنة درس مذبحة دير ياسين وكفر قاسم... لكن مهلا. تفحصوا المشهد قليلا وسترون ألف مذبحة تشبه مذابح دولة العصابات وقد تكررت على الأرض السورية بدولة عصابات أخرى بالأفغاني والباكستاني والإيراني والعراقي وجماعة حسن نصر الله وبقية الموبقات الطائفية التي استخدمت الساطور والسكين في حمص وداريا وسبينة وحلفايا والتمانعة وغيرها.
السؤال الملح منذ 6 سنوات: كيف يمكن لشعوب مقهورة ومسحوقة، وتدمر وتهجر بالملايين، وتعيش في غيرها بلا كرامة وأدنى حقوق بشرية، على امتداد الأرض التي تحكم بعصابات حقيقية، أن تكون رديفة ومساندة للكفاح الفلسطيني طالما أن ما يسمى الحركة الوطنية، بالجمع وليس بالفردية، تقبل صمتا عن كل هذا الذي يجري باسم البحث عن طريق القدس في حندرات والقلمون والقصير وداريا والتغيير الديموغرافي في كل سوريا؟ لا يقبل الحر، الذي يعاني ويلات التشرد والاحتلال، وببساطة التمرد على الظلم وفطرة أبسط في الكرامة الإنسانية، أن يرى أخاه العربي، وأخاه في الإنسانية، أينما كان في هذه المعمورة، يُسحق وتهان كرامته وتحال أجساد أطفاله إلى أشلاء، يبحث عنها أب مفجوع وتصرخ أم مكلومة وثكالى مندهشين في زمن المذبحة، أن يعاد درس من على قناة "الميادين" بأن الذي يجري في حندرات "بداية تحرير القدس". أي سخف هذا الذي يصمت عنه؟ بل وبكل وقاحة يصدق "أدعياء اليسار" بأن بوتين هو زعيم "الممانعة"... وموسكو كعبة الشيوعية... مثلما صدق بعضهم بأنه من نسل آل البيت..
*ناصر السهلي - مساهمة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية