*صحف ومواقع عربية ديبيكية أكثر من "ديبيكا"
*هناك إعلام ثوري وآخر داعم للثورة أجهد نفسه في نفي فعل لم يرتكب أصلا
*هل عاينت من قبل عملية تركيب أجنحة لـ"سرب" من الفيلة؟!
كتب الزميل محمد منصور مقالا لا يمكن لأي سوري أومهتم بالشأن السوري أن يتجاوزه، لعدة اعتبارات، من أهمها أن المقال يتناول أمرا بالغ الحساسية والغموض وما يزال رغم مرور 51 سنة مغناطيس جذب وتشويق، فضلا عن أن كاتب المقال عرض فكرته بهدوء ودعمها بحزمة من الأدلة المنطقية، وهو ما يثير الإعجاب ويحفز أي صحافي للكتابة بنفس هذا النهج، علّنا ننقي جميعا صحافة الثورة والمعارضة مما علق بها من بقايا خطابات الشتم والقذف والإنشاء، التي تسربت إلينا من إعلام النظام وتشبعت بها أذهاننا من كثرة تعرضنا له.
بيت القصيد أن جهد الزميل محمد منصور كان مشكورا، وكاد يلامس حدود الكمال، لو انتبه إلى نقطة واضحة في مقطع إعدام الجاسوس الإسرائيلي "إيلي كوهين"، الذي استفاض المقال في تفنيد إمكانية تسريبه إلى تل أبيب عبر إحدى فصائل المعارضة المسلحة، كما تناقلت ذلك مواقع عبرية وعربية.
والحقيقة أن ناشر المقطع و"مسربه" ليس سوى صفحة عامة في "فيسبوك"، أي إنه متاح لسكان البشرية جمعاء، ولا يحتاج قصة بوليسية للحصول عليه ونشره، كتلك القصة التي حبكتها مواقع عبرية مغمورة، وتابعتها فيها مواقع عربية، لتقول في النهاية إن فصيلا من المعارضة السورية المسلحة هو الذي أهدى هذا المقطع القيم والنادر إلى "إسرائيل" كعربون صداقة وتعاون!
*تنزيهاً لنا وليس للنظام
كان حريا بجميع المواقع التي تعمل وفق أجندات -تحاول أن تخفيها وهي قابلة للكشف بقليل من التدقيق-.. كان من الأجدر بمثل هذه المواقع، أن تحترم عقل جمهورها وبقية ما تحمله من مصداقية، وتصارح قراءها بأن مقطع كوهين "النادر"، ليس مصدره المعارضة، ولم يكن ليحتاج عملية استخبارية أو مفاوضات للحصول عليه، فكل من يريد أن يراه يمكن أن يضع في حقل البحث ضمن موقع فيس بوك اسم "Syrian art treasures , كنوز الفنون السورية"، ويذهب إلى المنشورات المدرجة بتاريخ 10 أيلول/سبتمبر 2016، ليرى أن المقطع منشور في ذلك التاريخ وتحديدا في الساعة 1.54 مساء، وقد حظي بـ30 ألف مشاهدة، فضلا عن 526 مشاركة، حتى لحظة كتابة هذه المادة (كما هو موضح في لقطة الشاشة التي التقطناها).
وفي المقلب الآخر، لم يكن ينبغي على الإعلام الثوري والمناصر للقضية السورية أن يذهب في دفع التهمة عن المعارضة، إلى حد اتهام النظام بتسليم الشريط لإحراج المعارضة، فهذا أيضا سلوك غير مرغوب، فالحق لا يمكن إثباته بالباطل، والقضية العادلة لاتحتاج لرمي التهم جزافا حتى وإن كان المتهم –في هذا الملف- بالتحديد- قاتلا ومجرما من طراز استثنائي في وحشيته ودناءته، مثل بشار الأسد ونظامه.
صحيح أن بشار وأزلامه ارتكبوا من الموبقات -وما زالوا- ما يجعل الكثيرين يعتبرون أن من الخبل والجنون تكذيب أي خبر أسود أو فعل خسيس عنهم، ولكن استعداد بشار ونظامه لاقتراف كل أنواع الانتهاكات، لايعني بالمقابل أن نسلم بأي رواية عنهم، ليس تنزيها لهم، بل تنزيهاً لعقولنا وضمائرنا عن أن تنغمس في إشاعة ما لم يحدث، حتى ولو كان في حق أعدى أعدائنا.
*من المنتصف
وبين المواقع والصحف التي بذلت جهدها لإلصاق التهم الباطلة بالثوار (إما عبر الترجمة من مواقع مغمورة أو عبر الافتراء المباشر)، وتلك التي تريد دفع تهمة فعل لم يرتكب بشتى الوسائل.. بين هذه وتلك حاولت وسائل إعلام أخرى إمساك العصا من المنتصف، وتقديم رواية "لاتغضب" هذا الطرف ولا ذاك، وكأننا في مجلس لإصلاح ذات بين رجل وزوجته، ولسنا في وارد سرد الحقائق كما هي، وهنا كان لافتا رواية "الشرق الأوسط" التي قالت على لسان مراسلها في تل أبيب إن الشريط نقل عن طريق "مواطن من مجدل شمس القرية السورية في الجولان المحتل، هو مندي صفدي (47 عاما)، الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية وعضوية حزب الليكود الحاكم في إسرائيل، وهو معروف بعلاقاته مع مختلف القوى المتصارعة في سوريا".
ونقلت "الشرق الأوسط" أن "صفدي" أخبر التلفزيون العبري بأنه حصل على الشريط من "إحدى قوى المعارضة التي رفض تسميتها"!
نعم.. شريط "كوهين" متاح وموجود وليس مصدره لا هذا الفصيل لا ذاك حتى نجهد أنفسنا في دفع التهمة، وهذا لا يتناقض أبدا مع الإقرار بأن جهد الزميل محمد منصور أكثر من مشكور، والدلائل التسعة التي ساقها، لايمكن سوى لخبير من وزنه أن يتفطن لها، ويبدو أن انهماكه المحمود في حشد الأدلة جعله يذهل عن "اللوغو" الواضح وضوح الشمس الذي تم دمغ مقطع كوهين به "Syrian art treasures"، وهو لوحده كاف لإسقاط كل الروايات بالضربة القاضية ومن أول ثانية.
وفي المقابل، حرص المواقع الثورية والمساندة لقضايا الثورة على دفع التهمة عن الثوار في هذا الملف كان واضحا، لكن ما خدشه بكل أسف الحديث الجزافي عن أن النظام سلم الشريط إلى تل أبيب ليحرج الثوار.
*حتى جثته
أما المواقع العبرية المغمورة التي اختارتها مواقع عربية لتستقي منها الخبر، وتترجمه وتنشره في فضاء الشبكة ومواقع التواصل، بل و"تبهره" بشتى أنواع الأكاذيب، فقد أعطت على ما يبدو مفهوما جديدا لصحافة الصفراء التي تقع فيها طيور الفبركة على أشكالها ولو باعدت بينها اللغات!، حتى ليخيل للمتابع أن قائد الأوركسترا واحد وأن هناك مؤسسة واحدة تدير موقعا واحدا بنسختين، أحدهما بالعربية والأخرى بالعبرية.
فعندما تختار موقعا تعلم أنه أصفر "فاقع لونه" يسوء المصداقية، فاعلم أنك تشاركه سلوكه، إن لم تكن بالفعل راضيا عنه ومشجعا له، وهذا ما فعله الموقع "الفلسطيني" (الفلسطيني بين قوسين مجازا)، عندما تصدى لمهمة الترجمة عن موقع أصفر مغمور، يمكن تشبيهه بقسم صغير في "سوبر ماركات" من المواقع ذات الروايات التهويلية أو "الديبيكية" (نسبة إلى موقع ديبيكا).
وإذا كان سلوك موقع "معا" مستهجنا ومستنكرا، فإنه يبدو على كبر الافتراء فيه هينّاً، أمام ما فعلته مواقع أخرى، تمادت في تركيب الأجنحة لـ"سرب" من الفيلة؛ حتى ذهبت حد القول إن أصحاب "الفورة السورية" كما سمتهم، لم ولن يكتفوا بتسليم شريط إعدام "كوهين"، بل إنهم سيسلمون جثة "كوهين" نفسه.. نعم والله هكذا بالحرف!
لايفوتني في النهاية أن أقول لكل من تستهويهم أسماء المواقع العبرية، وتثير في أنفسهم خيالات "الجيمس بوندية".. لايفوتني أن أخبرهم بأن جريدة "يديعوت أحرونوت" –الجريدة الأكثر ثقلا في منظومة الإعلام العبرية-، قد نوهت بكل شفافية بأن مقطع "كوهين" متاح على فيس بوك، ولم تأت مطلقا على ذكر الثوار ولا النظام، ولا نسجت روايات استخبارية ولا تحدثت عن صفقات.. وكل ما فعلته أنها عرضت خلفية تاريخية مختصرة عن "إيلي كوهين" وأخذت رأي أرملته "ناديا" في الشريط الذي بث حديثا.. وبإمكان الذين "يتقنون" الترجمة عن المواقع العبرية المشبوهة والمغمورة أن يرجعوا إلى تقرير "يديعوت أحرونوت"، إذا كان لديهم أي شك.. أو كانت لديهم أي نية في ترجمته ونشره، معلنا استعدادي الشخصي لتزوديهم بالترجمة "الحقيقية" والدقيقة لما أوردته "يديعوت أحرونوت" إن أعيتهم الترجمة.. اللهم إلا إن كان شعارهم "ديبيكون أكثر من ديبيكا".
. لقطة شاشة للمنشور الذي تضمن مقطع "كوهين" في صفحة "Syrian art treasures"
. لقطة لموقع اختار تبهير الرواية المختلقة للمواقع العبرية المغمورة، حتى وصل حد القول بأن الثوار سيسلمون تل أبيب جثة "كوهين".
لقطة لإحدى المواقع التي تدعم الثورة السورية، اختارت تبني رواية أن النظام سلم شريط كوهين ليحرج الثوار
. لقطة لمقدمة خبر موقع "المنار" التابع لمليشيا "حزب الله"، لا داعي للتعليق عليه لوضوحه الشديد.
. لقطة شاشة لخبر "يديعوت أحرونوت" الذي لم يذكر أي عبارة صريحة أو حتى تلميح عن ثوار أو نظام أو صفقة، وأوضح بكل شفافية أن المقطع منشور على صفحة عامة.
لقطة لجزء من تقرير الشرق الأوسط ينقل رواية لا تميل إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
إيثار عبدالحق - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية