أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

زين الدين الآمدي " الرجل الذي سبق برايل في تعليم القراءة لغير المبصرين.... محمد عبده العباسي

نحن نهـلل كثيراً لكل عمل يأتينا من الغرب ، تلك عقدة تســــاورنا منذ زمن بعيد نطلق عليها مجازاً " عقدة الخواجة " فحين حقق " برايل " ابتكـــــاره في عمل الحروف البارزة لجعل غير المبصرين يعرفون القراءة ، فـــإذا كان "برايل" الذي فقد بصره منــــذ صغره فعوضه الله بنعمة البصيرة فقداستطـــــاع أن يقدم للبشرية طريقته التي حملت اسمه علـــي مستوي العالم منذ العام 1887م ..
واعترافاً بفضل الرجل في هذا المقال قـام العديد من المواطنين الفرنسيين في بلدتـــــــه "توفري" الواقعة بمقاطعة "سين إيمــــارن " بفرنسا بعمل اكتتاب عام وأقاموا تمثالاً له في تلك البلــــــــدة الصغيرة التي ولد فيها عام 1809 فإذا كان أهل " الفرنجة" يفخرون بواحد من بني جلدتهم مثل "برايل " وقاموا عـــــــلي تكريمه ، فهل لنا أن نبحـــث في تلافيف رؤوس لنتذكر فضل رجل كان له قصب السبق قبل " برايل " بخمسمائة وخمسين سنة ،ونزيح الغبار عن هذه الشخصية الفريدة ونلقي الضوء علي سيرته العطرة ، فقد ابتكر الأمدي طريقة خاصة للحروف البـــارزة تساعد غير المبصرين علي القراءة مع الأخذ في الاعتبار المدي الزمني بينهما وكذا اختلاف الظروف والامكانيات..
رجل في حجم زين الدين الأمدي يستحـــق أن نعطه حقه من التقدير ونقف له إجلالاً واحتراماً ونفخر به ونزهو بشخصه ونقدمه قدوة للأجيال مجدداً ..
وزين الدين الأمدي ولد في مدينـــــة " آمد " التي تقع بالقرب من ديار بكرشمالي العــــراق ، وانتقل إلي بغداد العامرة لتحصيل العلم فأصبح من أهلها ولم يفارقها حتي مماته في العـــــــــام 713هـ / 1314م .
والأمدي كما أورده الصلاح الصفدي فـــــــي كتابه "نكت الهميان في نكت العميان " هوعلــي بن أحمد بن يوســـف بن الخضر ، الشيخ الامام العلامة زين الدين أبو الحسن الحنبلي الأمــــدي وجاء وصفه في نفس الكتاب علي النحو التالي :
" كـان شيخاً مليحاً ، مهيباً صالحاً ، ثقة صـدوقاً كبير القدر والسن ، وكان لا يفارق الأشغــــــال والاشتغال "أي التدريس والدرس " أبداً ، وعنده تودد عظيم وتؤدة تامة في سائر أموره وحركاته ، وأنه كان للناس والحكام والرؤساء عليه إقبـالاً كبيراً لما له من خير وفضل وورع وحلــم ودين ونزاهة ومروءة ..
أما خير الدين الزركلي فقد كتب عنه في كتابه الشهير " الأعلام ":
أنه كان من أكابر الحنابلة فقهاً وصلاحاً وصدقاً ومهابة ، كان آية في الفراسة وحدة الذهـــــــــن وصدق الرؤيا ، عارفاً بلغات شتي منها التركية والفارسية والمغـــولية والرومية ، بالاضافة إلي لغته العربية التي بهــــا تثقف وكتب وألف وكان يؤدي بها حاجاته اليومية في التعبير والتفاهم ..
كان الأمدي من علماء المدرسة المستنصرية في بغداد ، أصيب منذ نعومة أظفاربالعمي،فلم يستســــــلم أو ييأس ، ولم تقف تلك العاهة حجر عثــرة أمام إصراره علي المضي قدماً في سبيل العلم فاشتغل بالدرس والتدريس وسعيـــــاً وراء الحصول علي رزق عياله لم يطرق باب حاكــم بـــل اتخذ من مهنة بيع الكتب سبيلاً لكسب قوت العيال وكسب بذلك احترام الخاصــــة والعامة ، فقد وضـــــــع نصب عينيه وبإباء شديد ألا يلجأ لعمــــــــل يضعه في موقف ذلة أو هوان وسعي حثيثاً للبعد عن مواطن الزلفي ومواقع النفاق..
ولعل السبيل الذي توصل إليه الأمدي يجــعلنا في دهشة من أمره ، فقـــــــد اكتشف الرجل من خلال عمله في بيـــــع الكتب السبيل إلي إبتكاره الذي سبق به " برايل " بأكثر من نصف قرن من الزمان ..
ولكن كيف استطاع هذا " الضــــرير " من خلال تجارته في بيع الكتب التي تحتاج لإنسان مبصر علي الأقل أن يقدم لنا ابتكاره هذا الـــذي لم ينل به شهرة الفرنسي " برايل " ؟
راح بائع الكتب زين الدين "الأمدي "يصنـــــــع حروفاً بارزة يحدد بها ثمن كل كتاب ليتعــــرف عليه عنـــد بيعه ، فكــان يأخذ بقطعة من الورق الخفيف ويقوم بفتلهــــــا بطريقة رقيقة ثم يصنع منها حرفاً أو أكثر من حروف الهجاء ليحدد بها سعر الكتاب بحساب الجمل التي تشكلهاالحروف ثم يقوم بلصقها علي طرف جلد الكتاب جلد من الداخل ثم يلصق ورقة رقيقة فوقه لتظل ثابتة ، وحتي لو ساوره الشك في تحديد أو معرفة ثمن أي كتــــــاب أو اختلط عليه الأمر لمس بطرف أصابعه الموضع الذي علمه فيعرف علي الفور الثمن الذي حدده لكل كتاب يعرضـــــه للبيع في مكتبته دون أي ظلم يرتكبه في حق نفسه أو حق الشاري ..
ومن طريف مايدل عــــــلي فراسة الرجل ـ كما وصفه من عاصره ـ من رهافة في الحس وحدة في الذكاء وتجلي ذلك واضحاً في اثناء ممارسة تجارته في الكتب فإذا طلب المشتري كتاباً ما، قام الأمدي علي الفور بإحضاره له من الخزانة الكبيرة التي تضم بضاعته الضخمة ، ليعود من دون جهد أو عناء أو خطأ وكأنما هو وضعــــه علي الرف في دقيقة سابقة ، وحتي لو كــــــان الكتاب مؤلفاً من عدة مجلدات وطُلب منه فقط مجرد مجلد بعينه ..
ومما هو جدير بالذكر أن حدة ذكاء الأمـــدي تمثلت أيضاً في قدرته غذا ما مس كتاباً عرف من تلقاء نفسه كم هي عدد كراساته " ملازمه" وإذا مر بيده علي صفحة منه أخبرعن عــــــدد سطوره وكذا نوع القلم الذي كتبت به ومــــــدي غلظة الحروف أو نعومتها ، بل وبلغ الأمر بــه لأن يحدد نوع الخط وما إذا كان لكاتب واحد او اكثر مهما تعددت أنواع الخطوط ، كما كانت له القدرة علي تحديد لون الحبر المكـتوب به والذي استخدم في الكتابة سواء كان باللــــون الأحمرأو الأسود ..
ومن طريف ما يروي عن الشيـــخ زين الدين الأمدي أن السلطان المغولي "غازان" وهو أحد أحفاد هولاكو بن جنكيز خان لما دخل بغداد عام 695 هـ وصلت إلي مسامعه ما يروي عـــــن سيرة الشيخ ومحامده وأفضاله وما عرف عنه من فطنة وذكاء فقرر السلطان زيارة المدرسة المستنصرية ليقف علي صدق ما سمع وليمتحن ذكاء الشيخ وحسن فطنته ..
ولما وصل موكب السلطان إلي المدرســـــــة احتفل به الناس واجتمع من حولـــه أعيان بغداد من القضاة والعلماء والعظماء ومن بينهم الشيخ زين الدين الأمدي ، فأمر السلطان الأمراء الذين وفدوا معه بالدخول إلي المدرسة قبلـــه والسلام علي الشيخ ويقدم كل منهم نفسه للشيخ ويوهمــه بأنه شخص السلطان علي سبيل الامتحان فجعل الناس كلما مر أمير جللوه وعظموه ، وجاءوا به للشيخ للسلام عليه ، فيقوم الشيخ برد السلام دون أن يحفل بمن دخل عليه أو يقوم من جلسته ، ولما جاء الدور علي السلطان " غازان " ولم يقدمه أحد للشيخ سلم علــــــــيه الأخير وصافح السلطان بحرارة بالغة بعد أن عرفه علي الفور حين وضع السلطان يده بيد الشيخ الذي نهض من جلسته وخاطبه بالعربية والفارسية والتركية والمغولية والرومية ..
وقد ترك لنا الشيخ الأمدي تراثاً رائعاً في كافة فروع المعرفة نذكر منه :
ـ جواهر التبصير في علم التعبير ." وهو كتاب يعني بتفسير الأحلام ".
ـ منتهي السؤل في علم الأصول " وهو كتاب يعني بأصول الفقه ".
وله تعليقات كثيرة في الفقه .

بورسعيد ـ مصر
(250)    هل أعجبتك المقالة (258)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي