بحذر يحدثني رجل فلسطيني في الغرب، ينتمي لحركة فتح، وكأنه يحاذر الجدران، عن اتصالات "رجال محمد دحلان" وتزايد تحركاتهم مؤخرا "لخلق اصطفافات" تتضح مقاصدها الآن.
أذرع دحلان تسعى، منذ أشهر، لإعادة تموضع في صفوف الفلسطينيين، داخل وخارج فلسطين، خصوصا في الشتات الأوروبي. ويضيف هذا الرجل بأن "المسعى يتم من خلال سياسة معروفة: "دك الأسافين"، وخلق "حالة شقاق واستقطاب بين مراكز قوى متصارعة الولاءات على كل شيء سوى أن تلتزم بفلسطين كبوصلة لعملها".
نحن أمام مشهد يستهدف حركيين ومكاتب تمثيل وسفارات فلسطينية. ومع ذلك تزايدت مؤخرا دعوات عواصم عربية، لإعادة دمج دحلان في الساحة الفلسطينية (بعد أن فاحت رائحة استخدامه، وآخرها في تركيا).
مخططو استثمار خطوات محمد دحلان ليس بنيتهم التراجع، بل الاندفاع والانتفاع في تلك الساحة، لمرحلة قادمة يبشر بها إعلام الانقلابيين في مصر.
ليس من داع الآن للخوض في جردة علاقات طويلة بين شلومو بن عامي ودحلان، وسلسلة تصريحات الأخير المحرضة ضد الراحل ياسر عرفات، كل هذا وغيره متاح لمن أراد معرفة أهداف دحلان الحقيقية.
وما من سر بأن الرجل، وبدعم واحتضان رسمي عربي، مرعوب من ثورات الربيع العربي، أوكلت إليه مهمة ربط خيوط الثورات المضادة.
وبالمناسبة، حتى موسكو ليست بعيدة عن تنسيق ما تريده تل أبيب في هذا الخصوص. لا يمكن نسيان ما قام به في انتفاضة الشعب الليبي بوجه القذافي، وتاليا في الثورتين المصرية والسورية.
الوجهة القادمة لذلك المعسكر خلق تشوهات مسبقة، للإفادة في مرحلة ما بعد محمود عباس. وأيضا فلسطين هنا ليست مركز الانشغال، بل استمالة دولة الاحتلال لتسويق وحماية، ولو مؤقتة، لمعسكر الوصول إلى أي اتفاق مهما كان هزيلا ومتهالكا.
دحلان الوريث "المخلص".
في الساحة الفلسطينية، ثمة تيارات في "فتح"، وعلى يسارها، تشبه تلك العربية القابلة بأي كان، ولو عبر الحذاء الانقلابي العسكري والأمني القمعي-التدميري، في سبيل إثبات صحة نظريتها عن "خطر الإسلام السياسي". ليس فقط لمعرفتها بأنه الأكثر شعبية في براغماتيته وطرح نفسه بديلا في الشارع، بل لعجزها الذاتي عن خلق بدائل، خارج إطار التنظير المتسلح بالتطرف الأيديولوجي اللفظي، القائم على الحب والكراهية.
بنظرة سريعة إلى مسألة الانتخابات الفلسطينية المحلية يتكشف حجم الهلع، عند معسكر الدفع باتجاه تعويم محمد دحلان لـ"خلافة" تستند إلى عقلية الدروشة بقراءة الفرد "المخلص". تجليات "المخلص الأوحد" رأينا إلى أي واد سحيق تأخذ مصر، وكيف وبعظمة لسان هذا المخلص، الذي أشبع الناس شعارات، يحول وطنا إلى "أشباه دولة".
ومثلما صارت "أم الدنيا" كذلك، فلما لا يقال: "فلسطين شبه قضية".
المقدمات واضحة في قضيتين: عدم رغبة مصر في طرح مطالب بوضع المشروع النووي الصهيوني تحت آليات رقابة أممية، وشهر العسل بين وزير خارجية السيسي ونتنياهو، وتحميل الضحية الفلسطيني كل مسؤولية إرهاب الدولة.
لكن كيف يمكن لدحلان أن يصبح "فخامة الرئيس"؟، فهو مفصول من حركته، ومطلوب للتحقيق القضائي.
إنها ببساطة لعبة "فوضى الأمن" و"الصنبور المالي".
أمنيا، فوضى السلاح الذي عاشته الضفة الغربية خلال الفترة الماضية ليس بريئا ولا عفويا. بالإضافة إلى كل التصعيد الاحتلالي في مدن الضفة. وحين تحين الظروف، سنرى صحفا فلسطينية، كانت بالأمس القريب تعدد خطايا دحلان، تنقلب لتعيد صياغة رواية أخرى عن الرجل و"أياديه البيضاء".
لنتذكر الفوضى المختلقة في مصر قبيل انقلاب يوليو 2013 على الرئيس المنتخب محمد مرسي.
ماليا، العارف بكيفية ربط المواطن في الضفة بحزمة مقيدة من ضمانات الوظيفة للقروض البنكية، والوصول لإفلاس شهري يستدعي تبرعا لدفع مرتبات الموظفين، يمكن أن يتنبأ بخطة مالية، من دولة عربية تحتضنه ماليا وترعاه أمنيا، بموافقة دولة الاحتلال، ليعوم من جديد بـ"الرئيس محمد دحلان"، كمنقذ لمعسكر "بدنا نعيش".
*عقبة "م.ت.ف"
يتحدث البعض عن عقبات بوجه دحلان، ومنها أن "منظمة التحرير" والفصائل لن تقبل به، لكننا إذا ما قرأنا الواقع بصدق سيقفز السؤال الجوهري عن "م.ت.ف" واستقالتها من العمل كمنظمة "تحرير" بتحولها لديكور "اجتماع القيادة الفلسطينية".
ومنذ أن رفعت أغلب فصائلها شعار "لا لأوسلو" فضح باب التوزير، والوقوف على أبواب التمول من السلطة، حالة التهلهل وتحولت إلى ما يشبه "منظمات غير حكومية"، في الداخل أو في الشتات الفلسطيني، وموقفها من قتل وتهجير نصف مليون من شعبها في سوريا أوضح إلى حالة الإفلاس في رحلات مكوكية لم تستطع فك حصار عن أكبر مخيمات سوريا الذي احتضنها ذات يوم، وفي أفضل الأحوال تحولت إلى ما يشبه أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية في تركيبة نظام الحكم في دمشق.
كل أحلام وطموحات عواصم الثورات المضادة للدفع بـ"دحلان الرئيس"، ستكلف الساحة الفلسطينية أثمانا هي بغنى عنها.
ناصر السهلي - كاتب فلسطيني - مادة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية