أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عُدنا نغني .. "قود السفينة يا معلم"*

أرشيف

بعد نحو ثلاثة أعوام شاءت الظروف أن أقضي سهرة ماتعة بعد عناء نهار من تغطية أحداث الجبهة، وضمت السهرة ظرفاء داخل إحدى قرى ريف درعا، وكانت من القرى التي تحررت منذ بداية الأحداث. 

أحد الظرفاء وهو صاحب البيت الريفي داخل مزرعته روي لنا قصّة اللوثة التي أصابت السوريين مع آل الأسد، إذ كان كل فترة يتوغل بين أشجار مزرعته، ثم يتأكد من عدم وجود أي شخص في المحيط، وبعدها يبدأ بالغناء "ودّي المراكب عالمينا وقود السفينة يا معلم" .. ثم يغني ويغني .. "حركتنا التصحيحية بدنا نعيدا يومية".. إلى آخر الأغنية التي كانت واحدة من مئات الأغاني التي تمجّد حافظ الأسد.

صديقنا الظريف لم يكن يحبّ الأسد الأب ولا الابن، إلا أنَّ رغبة شديدة في تمتمة هذه الأغنية كان يقضّ مضجعه، فلا يرتاح إلا بعد أن يرددها بصوت مرتفع ليقفل بها على رغبة غريزية لا يجد لها تفسيراً علميّاً، رغم أنه رجل متعلم وله بضع أولاد بعضهم تجاوز العشرين.

بقي الموقف عالقاً في نفسي، وكنت أضحك كلما تذكرت الرجل، وروايته الظريفة، ودفعني الفضول لسؤال بعض الأصدقاء، فوجدت بينهم من يمرّ بنفس الحالة وإن بتفاصيل مختلفة. 

حاولت تفسير الحالة، خاصة وأنني بدأت أشعر برغبة مماثلة للتعبير رغم كرهي المسبق لكلّ المرحلة السابقة، وسعيي للانتقام من ذاكرة القمع الثقافي والاجتماعي الذي مارسته أجهزة الأسد لعقود، وكنت من ضحاياه كملايين السوريين.

ظهر لي أن سيغموند فرويد قدّم تفسيرا موضوعياً لمثل هذه الحالات بالعموم، عبر نظرية "الذاكرة القمعية" أو "Repressed memory"، فالسوريون ثاروا على الذاكرة بطبيعة الحال، وضمن ثورتهم أرادوا قمع كل رموز المرحلة السابقة، ومن بينها الترميزات الفنية، وهنا يرى فرويد أن الذاكرة لا تنسى الحدث بل تحتفظ به سرّاً، فالذاكرة تزيل الحدث من العقل الواعي ليبقى موجوداً في ذاكرة المدى الطويل للمرضى.

إذن فنحن مرضى تحولت عندنا الذاكرة المؤلمة إلى وسواس قهري، وغالباً ما يعقب هذا المرض حالات الصدمة، وأزعم أنّنا مصدومون أكثر من المجانين.

لقد رأى السوريون الموت، وكلّ منهم نال حصّته من ثقافة "حماك الله يا أسدُ" خاصة وأن خلفها مغنّين وشعراء بينهم متنبي العصر الحديث محمد مهدي الجواهري صاحب معلّقة "يا حافظ العهد" التي غنتها ميادة الحناوي، وطلال حيدر صاحب معلّقة "صهيل الفرس" لشهيدهم باسل الأسد، وغيرهم العشرات من أصحاب أدب قاعدة اكتب شعراً في القائد تحصل على شقة وراتب من اتحاد الكتاب العرب لصاحبه ع .ع. ع، وهذه الأخيرة تعني علي عقلة عرسان.

يبدو أن ذاكرة السوري ستعيش تحت ضغط خمسين عاماً من الحبس النفسي في قفص دولة الأسد، ومن نجا من هذه الدولة إما أموات سبقوا هذه المرحلة وعارضوها فكان مصيرهم النفي أو الموت في المعتقلات، أو من مواليد ما بعد 2011 وهؤلاء أسوأ حظاً وأتعس مصيراً، إذ ما الذي يمكن أن يتذكره طفل عاش تحت نحو 9 آلاف برميل متفجر و 10 ملايين طن من المقذوفات النارية على داريا، وعندما خرج منها لم يتعرف على "البسكويت" "والبندورة"، هذا غير صور حمزة الخطيب وإيلان وعمران وهاجر، و"بالم" البحر والغرقى.

كانت مثيرة صورة مسلحين من نظام الأسد عند مدخل داريا حين رفع أحد الثوار من داخل الحافة الخضراء يده ملوحاً بإشارة النصر، فرد عبيد الأسد بعبارات نابية أعقبوها بهتافات "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، فهؤلاء قطعاً مازالوا يخضعون لجلسات ضبط الذاكرة خلافاً لنا نحن مرضى نفس الذاكرة.

وعلى سيرة بشار الأسد.. والذاكرة فإننا بتنا نكره تماثيل الأسود التي تجسد أروع أعمال الفن والمنحوتات، وأنا شخصياً بتُّ أخاف منها وأتجنبها.. أحد السوريين قال: ما عاد بدنا الأسد حتى بحديقة الحيوان.

ما أصعب الذاكرة التي تركها لنا حكم الديكتاتور، وما أصعب نسيان ما مرت به البلاد، لا نعرف متى ستنتهي المقتلة، والذي نعرفه هو أننا سنتذكر دائماً كيف خان آل الأسد بلدنا، وكيف أعملوا سكاكينهم بأجسادنا وطبولهم ومزاميرهم في رؤوسنا.

*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
(199)    هل أعجبتك المقالة (191)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي