أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن العادة والقفز في الفراغ*

الكاتب ميخائيل سعد

منذ أكثر من ثلاث سنوات أجلس كل صباح يوم إثنين أمام الكمبيوتر لأكتب مقالتي الأسبوعية لـ"زمان الوصل".

خلال الأسبوع تمر في ذهني عشرات الأفكار، وأقول لنفسي إنها صالحة للكتابة، وأتكاسل عند فتح صفحة جديدة للكتابة لتسجيل تلك الفكرة أو هذه، موبخا نفسي على تسرعي، ومرددا: لماذا العجلة، فهي من الشيطان، فما زال معي خمسة أيام أو أربعة أيام، وصولا إلى القول: ما زال أمامي عدة ساعات، رغم أنني دائما أمام الكمبيوتر، ولا يتطلب الأمر مني أكثر من هجر "فيسبوك" لعدة دقائق أو أقل، لتسجيل الفكرة الطارئة قبل أن تبتلعها تلافيف دماغي ويرميها في سراديب النسيان، التي تزداد مع تقدمي في العمر.

ويمر الوقت ويزداد توتري مع اقتراب مؤشر الساعة من الموعد النهائي مع الزميل الذي يستلم ما كتبته، والذي يجلس في مكان ما، ليس مهما أن أعرفه أو أعرف مكانه في هذا العالم، الذي يتحول كله، بما في ذلك العواطف والمال والقتل واحتلال البلدان وتحريرها، إلى عالم افتراضي.

أخيرا أجد أن لا مناص أمامي من الكتابة، تنفيذا لالتزام قطعته مع نفسي، أنني يجب أن أحافظ على "طلتي البهية" الأسبوعية أمام الجماهير التي أضناها عطش الحصار؛ حصار الماء والكهرباء والغذاء والدواء، وخاصة حصار الإعلام المؤيد، الذي يمنع غيره من القيام بغزوات تاريخية إلى قلوب وعقول الجماهير، فأقرر المساهمة في "فك الحصار" بكتابة كلمات "نارية" تصب حممها على الأعداء، وبردها على المحاصرين العطاش لمعرفة الحقيقة، وتتلاحق الأفكار، وأنا أراقب عداد الكلمات في أسفل الصفحة الإلكترونية، حتى لا أبسط يدي أكثر مما يجب في الكرم، فأُتهم بالإسراف في استخدام الحروف بسبب ودون سبب، فنحن في زمن الثورة ولكل حرف دوره في تحقيق النصر "الإلهي"، الذي حققه السيد حسن نصر الله على إسرائيل، ولكن تخلى عنه "الله" في سوريا، وخاصة في حلب، فازداد عدد جثث الشباب، من أهلنا اللبنانيين، الذي يُرسلون من سوريا إلى السيد حسن. كل تلك الدماء الطاهرة من أجل "مرقد عنزة" قرب الولي الفقيه في إيران.

كعادتي، كما قال لي الصديق علي، أنت تستطرد في الكتابة حتى تكاد تنسى الفكرة الأولى، وهذا ما فعلته اليوم، فقد ابتعدت عن عنوان المقال "العادة".

كنت أريد أن أقول إن عادة الكتابة أسبوعيا، قد حققت تراكما كتابيا لي بلغ أكثر من مئتي مقال، أغلبهم تم نشره في "زمان الوصل"، والباقي في مواقع متعددة.

وهنا لا بدّ من الإشادة بخصال المشرفين على هذه الجريدة الإلكترونية ورئيس تحريرها، فلم يحدث، إلا ما ندر، أن تم حذف كلمة مما كتبته، أو تغيير فكرة أردت الإشارة إليها، رغم معرفتي المسبقة بأن بعض ما كتبته قد لا يتوافق مع خط الجريدة، ومع ذلك كان يُنشر كما كتبته.

ولكن كما هي عادة البشر، فإن العادة تجعل الإنسان جبانا، يخاف التغيير، وخاصة في بلد تهيمن عليه ثقافة التقليد، فتأتي العادة المستمرة لتكرس مقولات التقليد وتلغي أي احتمال للمغامرة.

في يوم من أيام 1976 تم تسريحي من عملي على المادة "البعثية" المشهورة بالمادة 85، عندما كان ما يزال للقانون أثر في سوريا، قبل أن يبخره آل الأسد.

تقول المادة: يحق للوزير المختص تسريح أي شخص دون إبداء الأسباب الموجبة لذلك.

كان التسريح من التعليم كارثة لأي سوري لا دخل له إلا من الوظيفة، ولكن بعد ذلك اكتشفت نعمة ذلك، فقد سافرت إلى بيروت وعملت في الصحافة ودور النشر، ثم عدت إلى سوريا وأسست مكتبتي واشتريت منزلا، وتزوجت وأنجبت.

صحيح أن النظام "لطش" كل شيء جنيته، ووضعني في السجن من جديد، ولكن الفكرة تبقى صحيحة: التسريح من العمل فتح أمامي أبوابا لم تكن بالبال، ودخلت عالم المغامرة التي أوصلتني إلى آخر الدنيا؛ إلى كندا، قبل أن تعيدني الثورة، معنويا، إلى سوريا.

سألني أحد أصدقاء حمص، وكنا في مكتبتي: ماذا ستفعل إذا أُغلقت المكتبة لسبب ما، هل تعود إلى التعليم؟
قلت له: انظر إلى حقيبة اليد هذه، بواسطتها، وبالتنقل بين مكتبات حمص، أنقل كتابا من واحدة إلى الأخرى، أستطيع أن أربح أكثر من راتبك كمدرس، فلماذا أعود؟
قال: أنت شجاع.
قلت له: أنت تخاف، تخاف أن يأتي آخر الشهر ولا يصلك راتبك، فتتصور أنك ستموت جوعا مع عائلتك. اكسر دائرة الخوف وغامر، حاول أن تعيش الحياة بمنظور مختلف.

خرجت عن الموضوع مرة ثانية. 
قررت بعد ثلاث سنوات من الكتابة الأسبوعية في "زمان الوصل"، أن آخذ "إجازة دون راتب".

فأنا أصبحت بحاجة للتجديد، لا أستطيع أن أعود شابا، وأغير في قدراتي الجسدية، ولكن أستطيع التغيير في عاداتي، التي ستمنحني نوعا من الجديد الذي قد يجعلني، أندم على ما فات، ولكن وصلت إلى نقطة لا بد من تجاوزها.

شكرا "زمان الوصل"، شكرا "فتحي بيوض" وشكري الكبير للزملاء الذين تحملوا غلاظاتي طوال هذه السنوات.

*ميخائيل سعد - من كتاب "زمان الوصل"
(174)    هل أعجبتك المقالة (178)

محمد علي

2016-08-10

اتمنى ان ترجعظ عن قرارك ،،،، لان فعلا كنت تمتعنا و تثقفنا احيانا و تعيد الامل احيانا و ترجعنا للماضي الحمصي احيانا ,,,,,,, تزعجنا احيانا ،،،،، اتمنى ان لا تكون اجازة طويله و اتمنى ان نراك قريبا في زمان الوصل او قريبا جدا باذن الله تعالى في حمص و تحديدا في بستان الديوان. شكرا مخائيل سعد ،،،،.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي