روى الشاب السوري ضاحي الضاهر لـ"زمان الوصل" ظروف خروجه من سوريا واستقراره منذ نحو سنتين في جزيرة نائية وسط المحيط الهندي، ليكون بذلك حالة نادرة مع 10 سوريين آخرين يسكنون الجزيرة، ويشكلون على الأغلب أصغر جالية سورية في العالم، الذي تفرق السوريون في أنحائه.
يقول "ضاحي" إن كلمة السر في خروجه من سوريا كانت "دفتر الجيش"، فعندما ذهب الشاب، الذي كان يتولى يعمل في سلك التعليم ويتولى إدارة إحدى المدارس، لقبض راتبه الشهري في صيف 2014، أخبره معتمد الرواتب مع زملاء له بأن عليهم إحضار دفاتر الخدمة العسكرية معهم في المرة القادمة، لأن هناك إمكانية لسوقهم إلى الجيش (جيش النظام).
ويوضح "ضاحي" أن الموقف جعله يحسم قراره بالخروج من سوريا، ويسارع إلى مغادرتها فعلا، ولكن باتجاه مخالف لاتجاه معظم السوريين، ففيما كان هؤلاء يشقون طريقهم نحو أوروبا، شق الشاب المتحدر من إدلب مع ابن عم له طريقهما نحو الجنوب، ليستقرا في جزيرة تقع شرق القارة الأفريقية، بين موزامبيق ومدغشقر.
*كبش فداء
يعود "ضاحي" إلى بداية المغامرة، حينما شرع في البحث ضمن المجموعات والصفحات التي تهتم بشؤون اللجوء وبلدانه وطرقه، فلفت انتباهه وجود جزيرة وسط المحيط الهندي تدعى "مايوت" وتتبع لفرنسا، علما أن اسمها الفرنسي مشتق من اسمها العربي الأصلي "جزيرة الموت"، لكثرة ما كان يتحطم على شواطئها من السفن، وكثرة من كان يهلك في تلك السفن الغارقة نتيجة اصطدامها بالشعب المرجانية الكثيفة.
ورغم سعيه الحثيث للعثور على تدوينات يمكن أن تشرح بعض التجارب في الوصول إلى الجزيرة، فإن "ضاحي" لم يجد ما يسعفه، بل لم يجد شخصا يمكن أن يرافقه ويخوض معه المغامرة.
ويضيف الشاب: كل من كانوا يبدون استعدادهم للذهاب إلى "مايوت" كانوا مترددين وخائفين؛ لأن الذهاب إلى هناك يعني الخوض في المجهول، واتخاذ طريق معاكس لطريق الهجرة المعتاد نحو الشمال والغرب، وهذا ما دفع جميع من اتفقت معهم (منهم عراقي ولبناني) للتراجع، بعد أن كنا اتفقنا أن نترافق سوياً.. باختصار الجميع كانوا يبحثون عن "كشاف" يستكشف لهم الطريق الغامض، ويكون بمثابة كبش فداء.
وهنا لم يكن أمام "ضاحي" إلا الاستعانة بابن عم له واستمالته، وبالفعل وافق الشاب وأهله على الفكرة، وغادر الشابان إدلب نحو تركيا، في تاريخ وساعة ما يزال محدثنا يتذكرهما بدقة (صباح 4 أيلول 2014، في تمام الساعة السابعة)، مؤكدا أنه حتى تركيا كانت "مجهولا" بالنسبة له، حيث لايعرف أحدا هناك، وكل ما يعرفه أن عليه أن يقطع تذكرة على الخطوط اليمنية أو الكينية لأنهما الشركتان المتاحتان لنقل الركاب إلى جزر القمر، وهي الأرخبيل الذي تتبع له "مايوت" جغرافيا وتاريخيا.
قطع "ضاحي" وابن عمه، محافظات تركية عدة حتى وصلا اسطنبول، وتحديدا مطارها الرئيس (أتاتورك)، وبعد مواجهة صعوبات في التفاهم وفي العثور على طريق مباشر نحو جزر القمر، اضطرا لشراء تذاكر إلى اليمن، ليحطا هناك.
وفور وصولهما إلى اليمن، تم التحفظ على "ضاحي" وابن عمه وجوازاتهما، مخافة أن يكونا ينويان التسلل نحو السعودية، فقالا إنهما لاينويان ذلك، ولا حتى يريدان البقاء في اليمن وإنما التوجه إلى جزر القمر، فطلب منهما أحد المسؤولين في المطار أن يقطعا تذاكر إلى جزر القمر إن كانا جديين فعلا فيما يقولان، ولما تأكد من جديتهما أعطاهما وثائق السفر وسمح لهما بالمغادرة.
*وحيدان على الطائرة
صعد "ضاحي" وابن عمه على متن الطائرة المتوجهة إلى جزر القمر، فلم يجدا فيها أحدا سواهما!، وجها لوجه مع مضيف من الجنسية المغربية.
في مطار عاصمة جزر القمر، كان في انتظار "ضاحي" شخص من سكان الأرخبيل، تعارفا من خلال شبكات التواصل. وفي شوارع العاصمة "موروني" عاين "ضاحي" وابن عمه بدهشة مظاهر الفقر المدقع لشعب جزر القمر، وتدهور مستوى الخدمات من ماء وكهرباء، فلم يلبثا سوى يومين، ليسارعا نحو وجهتهما "مايوت".
من الجزيرة الرئيسة، اتجه "ضاحي" وابن عمه ودليلهما نحو "أنجوان" وهي جزيرة ضمن أرخبيل "جزر القمر"، وتمثل محطة للعبور إلى "مايوت"، وبقيا هناك عدة أيام في ضيافة أقارب للدليل، سعوا في إيجاد قارب تهريب نحو الجزيرة الفرنسية.
ويستذكر ضاحي: ركبنا في قارب عرضه متر ونصف وطوله 4 أمتار، كنا 13 شخصا، وظننت للوهلة الأولى أن هذا القارب مؤقت، وأنهم سينقلوننا إلى سفينة أكبر، ولكن ظني كان خاطئا، وبقينا في القارب نعاين الأهوال من رياح وأمواج ومطر، ونسمع صراخ وبكاء البعض، ونرى شبح الموت مخيما فوقنا، قبل أن نبلغ "مايوت".
عندما وصل "ضاحي" وابن عمه سلما نفسيها إلى الشرطة، فلم يستطعيا التفاهم معهم وشرح قضيتهما، فما كان من عناصر الشرطة إلا اصطحابهما نحو "جمعية مسيحية" رفضت استقبالهما، وبعد ذلك سلمتهما الشرطة إلى جمعية مسؤولة عن اللاجئين، أعطتهما بعض المساعدات من طعام ولباس.
ويتابع "ضاحي" راويا لـ"زمان الوصل": بقينا في الجمعية نحو شهر، ثم طلبوا منا مغادرتها وأعطوا كل واحد منا 150 يورو، ولم نكن نعرف شيئا في الجزيرة التي يتكلم سكانها الفرنسية، وليس فيها –حينها- سوى اثنين من العرب، لم نكن نعلم مكان سكنهما.
*لا مزايا
بعد خروجهما من الجمعية بدأت رحلة جديدة من المتاعب، حيث بحث "ضاحي" وابن عمه عن سكن يؤويهما، ولكن دون جدوى، فلجأ إلى أحد المساجد ليناما فيه، قبل أن يعثرا على غرفة من صفيح، يدفعان 100 يورو لقاء إيجارها الشهري.
بعد وصول "ضاحي" بفترة، وفد إلى "مايوت" 4 سوريين دفعة واحدة، تبين فيما بعد أنهم هربوا من مكان احتجازهم في جزر القمر، التي أصبحت تفرض شروطا مشددة على قدوم السوريين إليها، بتعليمات من فرنسا، حسب ما يبدو، خوفا من تدفق السوريين إلى "مايوت".
ورغم أنها تابعة لفرنسا وتتكلم لغتها وترفع علمها، فإن معاملة اللاجئين في "مايوت"، حسب "ضاحي"، تختلف عن فرنسا، حيث إن اللاجئ في الجزيرة محروم من مزايا كثيرة متاحة لنظيره في فرنسا، فلا سكن ولا مخصصات مالية، وإنما فقط سلة غذائية تقارب قيمتها 15 يورو، يحصل عليها اللاجئ مرتين في الشهر، وما سوى ذلك عليه أن يتدبر أمور حياته من جيبه الخاص، أو عبر العمل، الذي يستحيل إيجاد فرصة نظامية له بالنسبة للاجئ.
وهكذا اتجه "ضاحي" للمتاجرة البسيطة بالمواد الغذائية والألبسة، من أجل أن يضمن قوت يومه، في جزيرة قال إن الفصل الغالب عليها هو الصيف.
بعد شهور من وصوله إلى "مايوت"، أجرت السلطات الفرنسية مقابلة عن بُعد مع "ضاحي" بواسطة دارة تلفزيونية، استمرت المقابلة نحو ساعة ونصف، من أجل التأكد من هويته وجنسيته والاستفسار عن ظروف لجوئه ومدى استحقاقه، قبل منحه الموافقة الرسمية.
بعد نحو شهرين من المقابلة منحت فرنسا "ضاحي" وابن عمه حق اللجوء، ليدخلا في دوامة إعداد وتسجيل الأوراق الرسمية، التي انتهت بالحصول على جواز سفر، بعد انتظار 22 شهرا تقريبا.
*كابوس
يوضح "ضاحي" أن عدد السوريين الموجودين في "مايوت" الآن يبلغ 11 شخصا، منهم من حصل على حق اللجوء لمدة 10 سنوات، ومنهم من حصل على حماية مؤقتة، ومنهم من يزال ينتظر، ومعظمهم يعمل (حلاق، مطعم، بيع...).
ويشرح "ضاحي" وضعه الحالي في الجزيرة، منوها بأنه تمكن من تعديل شهادته الجامعية، والتحق بدورات لتعلم الفرنسية وبات يعمل متطوعا مع الصليب الأحمر الفرنسي في الجزيرة، وهو متقدم حاليا لفرصة عمل في المجمع التربوي بصفة مدرس للغة العربية.
ويلفت "ضاحي" بأن رحلته من سوريا إلى "مايوت" استمرت 17 يوما، وكلفته قرابة 2500 دولار، مشددا على أن الطرق باتت شبه مقطوعة نحو الجزيرة، وأنه شرح لكثير من السوريين هذا الأمر عندما حاولوا التواصل معه، لاسيما أن اليمن لم تعد تقبل مغادرة أحد من السوريين لأراضيها نحو جزر القمر إلا بعد أن يكون حاصلا على تأشيرة من حكومة الجزر؛ وهو ما يعني سد الطريق منذ أول مراحله في وجه الراغبين بالوصول إلى "مايوت".
ولا يفوت "ضاحي" وهو يشارف على ختام حديثه أن يشير إلى بساطة معيشة سكان "مايوت"، ورخص تكاليف الطعام والشراب، بما لايتجاوز 3 يورو للشخص الواحد يوميا، ملمحا إلى إمكانية سفره إلى فرنسا، بعد حصوله على جواز السفر، لاسيما إن لم تتح له فرصة عمل في "مايوت".
ولكن هل كنت لتقدم على إعادة التجربة لو عادت بك الأيام إلى الوراء؟.. يجيب "ضاحي" مؤكدا بقطعية: لا، لا يمكن أن أعيد نفس الكابوس، بعدما صحوت منه.. كنت أحب البحر كثيرا، لكني بعد الموت الذي عاينته فيه لم أعد كذلك، بل لم أعد أنصح أحدا بركوبه، لاسيما إن كان سيستقل قاربا متواضعا كالذي ركبته.
زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية