أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مدينة الساعات ومدينة التاريخ*

من مظاهرات رفض الانقلاب يوم أمس في اسطنبول - الأناضول

كان من سوء حظي أو حسنه أنني تركت مدينة التاريخ اسطنبول قبل يوم من تاريخ محاولة الانقلاب العسكري، التي أفشلها الأتراك، لتحط الطائرة التي أقلتني، بعد ثلاث ساعات، في مدينة "بازل" السويسرية التي احتضنت أول مؤتمر عالمي للصهيونية بزعامة تيودور هرتزل يوم 29 أغسطس 1897، وبذلك فاتني حضور حدث تاريخي نادر سجل فيه الشعب التركي إحدى أهم مآثره في العصر الحديث، ألا وهي انتصار راية الديمقراطية ممثلة بالعلم التركي الأحمر وهلاله الأبيض على دبابة العسكر الفاشي ورصاصه القاتل.

واسطنبول هي مدينة التاريخ منذ آلاف السنين، ولكنها دخلت التاريخ الإسلامي عام 1453 يوم فتحها محمد الفاتح، ودخلت التاريخ الإسلامي والإنساني من جديد، يوم نزل الأتراك دون سلاح إلى الشوارع لمواجهة تمرد بعض القطاعات العسكرية، ورغبة قادتها في فرض إرادتهم على الشعب الذي اختار الديمقراطية أسلوبا لإدارة البلاد، فكان الحدث الكبير بانتصار إرادة الشعب وهزيمة قوى الاستبداد والتسلط العسكري، المدعومة من قوى خارجية تدعي حرصها على الديمقراطية.

ونأمل أن يستطيع الاتراك تكريس دور القضاء العادل، وليس الانتقام، كي يكون انتصار الشعب حقيقيا ونهايته سعيدة.

في "بازل" وجه آخر من وجوه الاستثناء الذي صنعه السويسريون، فلركاب الطائرة التي تهبط في المطار السويسري حرية الخروج من أحد ثلاثة أبواب، كل باب يؤدي إلى بلد؛ فإما إلى سويسرا أو ألمانيا أو فرنسا.
هذا الموقع هو ما جعل مدينة "بازل" هدف الصهيوني هرتزل، لتكون مكانا لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، وذلك لسهولة وصول الوفود الصهيونية القادمين من أوروبا إلى المدينة.

كما أن المدينة تتميز بوجود جالية تركية كبيرة، ربما بسبب اللغة التي يتقنها الكثير من المهاجرين الأتراك، الذي هاجروا إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

كان أخي بانتظاري عند الباب السويسري، رغم قولي له أكثر من مرة، إن باستطاعتي ركوب القطار الذي يوصلني إلى بيينبيل، إلا أنه أصر على أن يكون في استقباله لي شرقيا، كما في دفعه ثمن بطاقة الطائرة أيضا، فأنا الأخ الأكبر!.

في إحدى ساحات بيين/بيل قرأت ترحيبا بزوار "مدينة الساعات"، سألت أخي عن معنى الاسم "مدينة الساعات"، فقال لي: إن المدينة من أشهر مدن العالم في صناعة الساعات، ففيها الشركات العالمية التي تصنع أشهر ماركات الساعات في العالم مثل "سواتش"، "رولكس"، "أوميغا"، "تيسو"، "موفادو"، "ميكرون"، "لونجين"، و"رادو"، وغير ذلك من الساعات التي يتم تجميعها في المدينة، ولنا كعرب اسم بين هذه الأسماء الكبيرة.

في طريقنا إلى البيت قادني أخي إلى شارع رئيسي في المدينة يحمل اسم "نيقولا الحايك"، وقال لي: هذا اسم مؤسس شركة ساعات "سواتش"، وهو لبناني الأصل، وله الفضل بإنقاذ صناعة الساعات السويسرية التي كانت تشارف على الموت في بداية الثمانينات من القرن الماضي، ورفعها لتعود إلى مكانتها في صدارة الدول المصنعة للساعات، في عام 2009 حققت مجموعة "سواتش" إيرادات قدرت بنحو لا يقل عن 5 مليارات فرنك سويسري.

"بعد نحو 500 عام من بدء صناعة الساعات في سويسرا، ما يزال العالم مستعدا لدفع أسعار باهظة على ما تنتجه من ساعات".

وللسوري رفيق مرعشلي دور باهر في صناعة الساعات السويسرية أيضا، فقد أسس واحدة من أشهر شركات الساعات، المعروفة باسم "راما سويس واتش" والمميزة بجرأة تصاميمها ومنافستها للشركات العالمية الأخرى في الجودة.

وتشاء المصادفات، كما شاءت عندما غادرت اسطنبول، أن ألتقي ببائع الساعات الأكثر شهرة في سويسرا، وربما في أوروبا، وخاصة عند أصحاب محلات الساعات.

فقد كان "رولان كودري" يسكن في البناية نفسها التي يسكنها أخي، وقد شاهدنا ونحن نتحلق حول شواية الكبة في الحديقة المخصصة لجميع السكان، فجاء مرتديا طربوشا تونسيا وكلابية تونسية، ويحمل في يده زجاجة مشروب كحولي خفيف، قال عنه إن أصله دمشقي، واسمه "داماسين"، وهو من ثمرة تشبه الجارنغ، وتقول المرويات إن من حمله إلى أوروبا أول مرة هم بعض الفرسان الصليبيين العائدين إلى ديارهم، وقد احتفظوا باسمه الأصلي.

أما عن طربوشه التونسي فهو يرى أن ثقافات البشر متداخلة، ومن الصعب معرفة الخط الفاصل بين ثقافة وأخرى، والأدلة أكثر من أن تحصى، المهم أن يكون ما يأكله الإنسان أو يلبسه أو يتبناه من أفكار مقبول ومستساغ دون إكراه أو تزمت.

ويدعوني مسيو "كودري" البالغ من العمر 92 سنة، في اليوم التالي، إلى منزله لأكتشف أنه يعيش في مغارة تشبه مغارة علاء الدين، في سحرها وغناها وتنوع موجوداتها الثمينة. ويحكي لي حكاية مدينة الساعات، وورشات صناعة الساعات، وكيف كان البائع الأهم، الذي تتنافس عليه الشركات ليكون بائعها.

ويضع بين يدي عشرات الساعات التي كنت أقف مدهوشا من جمالها، ودقة صنعها، بعضها مصنوع من الذهب الخاص.

سألته لماذا باب بيته من الفولاذ، فقال: عندما بدأت مهنة بيع الساعات في الأربعينات من القرن الماضي، كنت أحمل أحيانا في حقيبتي ما يعادل مئات الألوف، وأحيانا الملايين، من الساعات الثمينة، وكنت مضطرا أن أتركها أحيانا في البيت، لذلك عندما اشتريت هذه الشقة قبل حوالى الأربعين عاما طلبت من حداد خاص أن يصنع لي باب الشقة من الفولاذ ضد الرصاص والتفجيرات.

صحيح أنني لم أتعرض طوال عمري إلى السرقة، ولكن لم يكن بمقدوري المغامرة بالسماح لاحتمال من هذا النوع بالحصول.

كان بين يدي إحدى الساعات الذهبية، فسألته إذا كان يقبل ببيعها بـ200 دولار، فضحك وقال: إن قيمة الذهب فيها وقيمتها التاريخية تساوي 200 الف دولار، ورقمك ليس بعيدا عن هذا الرقم.

كانت سهرة نادرة سمعت فيها قصص الاجتهاد والأمانة والدقة والابتكار، ورأيت قسما من تاريخ البشرية مجسدا في صناعة الساعات السويسرية التي يتجاوز عمرها 500 عام، وعرفت كيف تتجاور لغتان (الفرنسية والألمانية) ليس فقط في مدينة بيين/ بيل، وإنما في عقل كل مواطن سويسري، دون تعصب أو تنازع على ملكية العقل.

عندما ودعني السيد "كودري"، سألته عن سر الحذاء النسائي الموضوع أمام الباب، وكانت زوجة أخي قد حكت لي عنه، قال دون تردد: إنه حذاء زوجتي التي توفيت منذ خمس سنوات، كل يوم أنظفه وأعيده إلى مكانه، أريده أن يبقى هنا إلى أن أغادر هذه الحياة، لقد كانت زوجة محبة ووفية، ولا أريد أن أكون أقل منها وفاء.

وأنا أتدحرج على درج البناية باتجاه بيت أخي، خطر على بالي مقارنة سريعة بين عقل هذا العجوز "الساعاتيِ" وبين "الطبيب" الذي يريد أن يبقى رئيسا لسوريا غصبا عن التاريخ، وعن الساعات المصنوعة من دماء السوريين، وأيقنت من جديد أن الأخلاق لا تتجزأ، وأن الشعب التركي كان محقا في مواجهته دبابات الانقلابيين بصدور أبنائه، لأن الحياة الجديدة لا يبنيها الانكشاريون.

*ميخائيل سعد - من كتاب "زمان الوصل"
(181)    هل أعجبتك المقالة (219)

ابو ابراهيم

2016-07-19

الانسان يزداد ثقافة ومعرفة بهكدا مقالات جميله وشكرا.


محمد علي

2016-07-21

شكرا مخائيل سعد للمقال الجميل ،،،، اتمنى من استاذ مخائيل التركيز في كتاباته عن الحكومات الغربية المتتالية المنتخبة من جميع الاطياف التي تقتلنا و تهجرنا اما مباشرة او عن طريق عملاءها رؤساء و ملوك قمعيين يدعمها الغرب بالسلاح لضمان مصالحهلا في المنطقه و السؤال : هل المفروض علينا ان نبكي و نستهجن على ضحياهم على يد داعش و هم يقتلونا و يدمروننا باسم الحرب على داعش و لا من يستهجن قتلهم لضحاينا المدنيين ؟.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي