
خلال ساعات قليلة من الانقلاب، حصد الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" أكثر من كل ما تراكم له من شعبية وشرعية على مدى سنوات عمره السياسي، بل وربما حتى عمره الزمني الذي ناهز 62 عاما.
قدم الانقلاب "المر" ثمارا "حلوة" يانعة قطفها الرجل الذي تحول إلى رمز، استطاع حشد جماهير غفيرة في ساحات البلاد بطولها وعرضها، عبر كلمة لم تستغرق سوى دقائق معدودة، وجهها من خلال هاتف محمول!
أول ما قدمه الانقلاب لـ"أردوغان" استفتاء شعبي حي وواسع وسريع النتائج، وغير قابل للتزوير، أثبت مدى عمق شعبية وشرعية الرجل و"سلطانه" على قلوب فئة عريضة من الأتراك، وهو سلطان لا يكاد يدانيه أو يشابهه سوى سلطان أب محب مشفق على أولاده البررة.
لو سخر "أردوغان" كل ما تملكه تركيا من إمكانات مالية وإعلامية وسياسية، لما تمكن من إجراء معشار هذا الاستفتاء في حجمه، فضلا عن نوعيته.
قدم الانقلاب ثمرة أخرى لـلرئيس، عمقت مقدار الثقة الشعبية بخياراته عندما كان يواصل بدأب -ودون ضجيج أحيانا- مساعيه لـ"تنظيف" صفوف الدولة التركية، جيشا وشرطة ومؤسسات مدنية، من أصحاب التطلعات المتطرفة.. ورثة العقلية الانقلابية من قدامى العسكريين وإلى جانبهم رجال "فتح الله غولن" الذين يمثلون "حصان طروادة" حيثما حلوا.
الرئيس، الذي لم يعد رئيسا بعد الآن بقدر ما بات زعيما.. منحه الانقلاب فرصة لا تعوض للتعرف على بعض خفايا خصومه وأعدائه في الداخل والخارج.. بين شامت وحاقد ومتذبذب في إدانة الانقلاب، بل ومتردد في تسميته انقلابا (السفارة الأمريكية في أنقرة سمت الانقلاب: انتفاضة).
أعطى الانقلاب للزعيم أداة لقياس مدى قبول الشعب له، خلافا لما تروجه وسائل إعلام غربية وعربية، كانت وما زالت تورد التقارير عن تذمر الأتراك من "ديكتاتوريته" و"تسلطه"، وكلها مقولات سقطت كورقة خريف من شجرة أدركها اليباس، بل إن الذي أسقطها –للمفارقة العجيبة- هو الانقلاب.
وبما إن الشيء بالشيء يذكر، فإن قلة دراية الأتراك، بل وعدم معرفة أكثرهم بالإنجليزية والعربية "حمتهم"، وجنبت عقولهم من الوقوع في حمأة محطات ووكالات ومواقع عربية وغربية، كانت تبث تقاريرها وأخبارها المزيفة عن الانقلاب وكأنه بات قدرا مقدورا، مازجة أمانيها بالأكاذيب (سكاي نيوز ورويترز مثلا).

ولو استمع الأتراك لهذه المحطات، أو جلسوا خلف الشاشات، وتركوا النزول للساحات حتى الصباح، لكان للانقلابيين كلمة أخرى في السيطرة على مفاصل البلاد، لاسيما في اسطنبول (درة المدن)، ومن رأى حشود الناس تتدفق في منتف الليل، وعاين المآذن وهي تصدح بالدعاء والأذكار، ليس كمن سمع عن ذلك من خلف شاشة أو صفحة تواصل.
ثمرة "حلوة" أخرى قدمها الانقلاب لـ"أردوغان"، عندما أثبت للمشككين بلسان الحال لا بلسان المقال، أن الرجل ليس من نوعية السياسيين الذين يعقدون الصفقات ويقدمون التنازلات، وإلا لما كان خبر الانقلاب عليه محط إعجاب وترويج وترحيب وتهليل، لدى كل من حاولوا تصويره مؤخرا بأنه تراجع وتخلى وباع واشترى، لاسيما في القضية السورية.
كثيرة هي الثمار "الحلوة" التي قدمها الانقلاب لـلرجل الذي يشحن كل خطاباته بالتركيز على الرموز والقيم، إلى درجة مخاطبة الجيش الذي حاول قسم منه الانقلاب عليه وتذكيرهم بأنهم "جيش محمد" في إشارة إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومما قدمه الانقلاب لـ"أردوغان" كشفه عن مناقبية -قل نظيرها في الميدان السياسي- لدى معظم السياسيين الأتراك، سواء ممن كان يُروج أن الرجل أقصاهم وحاربهم (مثل الرئيس السابق عبدالله غول، ورئيس الحكومة السابق أحمد داوود أوغلو)، أو ممن كان الانقلابيون يعولون على حدة خصامهم ليضمنوا تأييدهم، لكن هؤلاء خيبوا ظنهم ورفضوا الانقلاب (لاسيما زعيمي الشعب الجمهوري والحركة القومية).
وفيما يتراشق سياسيو الغرب المتنافسون الاتهامات، بل ويتنابزون بالألقاب والتهم (ترامب مثالا صارخا)، أظهر السياسيون الأتراك مستوى عاليا من الحصافة والتعاطي الأخلاقي والوطني، جعلهم يلقون كل الخلافات وراء ظهورهم، معربين عن احترامهم لقرار الشعب الذي "ولّى" الرئيس وهو وحده من يعزله أو يسقط شرعيته، ومعبرين عن تقدير ضمني وعملي للرجل الذي قاد نهضة البلاد، ووصل إلى سدة الحكم باقتراع نزيه.
خرج الرجل إذن ومعه شعبه من محنة قصيرة بعمرها طويلة بوطأتها.. خرجوا منها "صاغ سليم"، وهو بالمناسبة مصطلح يستخدمه الأتراك للتعبير عن سلامة شخص أو جماعة.. خرجوا جمعيا وقد طبقوا عمليا مقولة: الضربة التي لا تقتلني تزيدني قوة.
إيثار عبدالحق - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية