بعد طول لغط حول مصيره، أعلن تنظيم الدولة عن مصرع قائده العسكري البارز "عمر الشيشاني"، وذلك في مدينة الشرقاط "أثناء مشاركته في صد الحملة العسكرية على مدينة الموصل (العراقية)"، كما ذكرت وكالة "أعماق" الذراع الإعلامية للتنظيم.
وفي آذار/ مارس 2016، رجح مسؤولون عسكريون أميركيون مقتل "الشيشاني" في غارة جوية شنها الطيران الأمريكي على منطقة قرب "الشدادي" التابعة لمحافظة الحسكة السورية.
ويأتي إعلان التنظيم عن مصرع "الشيشاني" لينهي التكهنات حول مصير واحد من أبرز الذين ساهموا في تثبيت أركان التنظيم، لاسيما في سوريا، وأهم من شاركوا في تحويل مسار الأحداث داخلها، وإذكاء نار الاقتتال بين الفصائل والتنظيم؛ لتقوى من بعدها شوكة النظام ومليشياته، بعدما كانت بلغت حداً غير مسبوق من الضغف.
*بين ترخان وعمر
كما ساد الغموض تحركاته وظروف مقتله، فإن الغموض يلازم تاريخ "الشيشاني" الذي لا يكاد يعرف منه سوى النزر اليسير، لاسيما ذلك الذي يمكن أن "يزكيه" لدى الحركات "الجهادية".
وسبق لـ"زمان الوصل" أن أكدت هوية واسم "الشيشاني" الحقيقي، اعتمادا على الأرشيف المخابراتي الأسدي، حيث ورد باسم "PATRESHVILLE TARKHAN"، من الجنسية الجورجية، مواليد 1986، مطلوبا للاعتقال من إدارة المخابرات العامة بمذكرة رقم: 103162، تعود للعام 2013.
و"ترخان باترشفيلي" هو الجورجي الوحيد المطلوب للاعتقال من قبل مخابرات النظام، علما أن عدد الجورجيين المدرجين على قوائم مخابرات النظام هو 10 أشخاص فقط، 9 منهم ممنوعون من دخول سوريا.
أما في أرشيف التنظيم الذي تمثله وثائق "بيانات مجاهد"، فيتكرر اسم "عمر الشيشاني" مرات عديدة، بوصفه الرقم الصعب في "تزكية" مقاتلين قدم معظمهم من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وهي "تزكية" لها وزنها المستمد من وزن "الشيشاني".
ويوثق التنظيم جميع الراغبين بالالتحاق به من لحظة دخولهم الأراضي السورية عبر المعابر مع تركيا، بواسطة نموذج موحد "بيانات مجاهد"، مؤلف من 23 حقلا، يتعرض أهم معلومات الشخص المنتسب (اسمه الحقيقي، اسمه الحركي، تاريخ ميلاده، جنسيته، تاريخ دخوله سوريا، مستواه الشرعي...).
*تكنى باسم من حاربهم
تقول المعلومات الشحيحة عن "باترشفيلي" إنه مواطن جورجي من أب مسيحي وأم مسلمة، أنهى خدمته الإلزامية في الجيش الجورجي، ولكنه بقي مع هذا الجيش بصفة "متعاقد" ضمن كتيبة الرماة، فضلا عن خدمته فترة في الاستخبارات الجورجية.
واللافت أن الجيش الجورجي الذي خدم فيه "باترشفيلي" وأصر على البقاء في صفوفه، عبر "التعاقد" معه عام 2008 إلى أن أُخرج منه عام 2010 قسرا (تم تسريحه ولم يستقل طوعا).. هو نفس الجيش الذي تدرب فيه على يد خبراء أمريكان وخاض معارك بدعم أمريكي، لطرد المقاتلين الشيشان، ممن لجؤوا إلى مسقط رأس "باترشفيلي"، أي وادي بانكيسي في جورجيا.. واللافت أكثر أن "باترشفيلي" سيتكنى بعد فترة قصيرة جدا من تسريحه باسم الشيشان الذي كان جيشه يطاردهم بوصفهم "إرهابيين"، بل سيغدو هو نفسه واحدا من كبار "الإرهابيين" الذي تطاردهم الولايات المتحدة، عارضة مبلغ 5 ملايين دولار، لمن يساعد في القبض عليه.
تحولات جذرية، حدثت إذن على حياة "باترشفيلي" خلال سنوات قليلة جدا، تثير وما تزال -حتى بعد مقتله- جملة من التساؤلات حول التوجه الحقيقي للرجل، عززتها نتائج ممارساته الفعلية في الميدان السوري، وهي ممارسات صبت كثيرا من الزيت فوق نار الاقتتال، ودقت من الأسافين ما يصعب انتزاعه، حتى غدت الساحة السورية مضرب المثل في تشتت البنادق، بعدما كانت موحدة في اتجاهها إلى صدر النظام.
ففي خريف 2010 تمت إدانة بتهمة مساعدة المقاتلين الشيشان، وحكم عليه بالسجن مدة 3 سنوات، قضى منها نصف المدة فقط، وتم إخراجه بحجة تدهور حالته الصحية، التي يبدو أنها لم تكن متدهورة، بدليل توجهه بعد فترة وجيزة إلى سوريا للقتال.
*ردة فعل
يقر والد "باترشفيلي" أن ابنه كان مستعدا للالتحاق مجددا بالجيش الجورجي، بناء على وعود تلقاها، لكنها لم تنفذ، ولهذا لجأ إلى التوجه نحو سوريا، أي إن توجهه إلى هناك –حسب شهادة الأب- لم يكن خيارا والتزاما بمبدأ بقدر ما كان ردة فعل.
ويؤكد الأب أن ابنه تغير خلال فترة سجنه، واعتنق الإسلام رغم أنه لم يكن متدينا قبل ذلك، وهذه السيرة تتشابه إلى حد كبير مع سيرة فئة من زعماء وقيادات التيار "الجهادي" الذين يبرز تدينهم فجأة خلال سجنهم، ويتحولون من معتنقي أفكار بعيدة عن الإسلام والجهاد، إلى منظرين ومحاربين أشداء عن معتقدات الولاء والبراء والتكفير وجهاد الطغاة وغيرها من الأفكار التي يدعون لها.
ورغم هذا المسار المتخبط لـ"باترشفيلي" والتاريخ الملتبس له، فقد كانت فترة سنة واحدة في سوريا كافية لتلميعه وإبرازه، بل ولجعله قياديا ذائع الصيت مرهوب الجانب في تنظيم "الدولة".
فقد دخل "باترشفيلي" سوريا عام 2012، وما لبث أن تولى قيادة مجموعة سماها "كتيبة المهاجرين"، ثم انتقل لقيادة تشكيل يدعى "جيش المهاجرين والأنصار"، كانت له شوكة في معارك حلب وريفها، لكنه سريعا ما تفكك بعد أن اتخذ "باترشفيلي" قرارا بالانضمام إلى التنظيم ومبايعة زعيمه "البغدادي".
أسهمت هذه الحركة في شق صف التشكيل بين مؤيد ومعارض، كما أسهمت في بروز نجم "باترشفيلي" أكثر فأكثر، باعتباره رأس حربة في تكفير الفصائل الثورية والجهادية العاملة ضمن سوريا، وواحدا من أشد المحرضين على قتالها وقتل أفرادها.
"صلاح الدين الشيشاني" الذي خلف "باترشفيلي" في قيادة ما تبقى من "جيش المهاجرين والأنصار" بعد انقسامه، أدلى بشهادة واضحة لا تقبل التأويل عن دور "باترشفيلي" في تأجيج صراع التنظيم مع مختلف الفصائل، لاسيما جبهة النصرة وأحرار الشام، وهما من أكثر التنظيمات الجهادية بأسا وفعالية.
وقال الشيشاني إنه التقى "باترشفيلي" شخصيا في الرقة، وعرض عليه إيقاف الاقتتال، لكن الأخير رفض بشكل قاطع، معبرا عن اعتقاده اليقيني بـ"كفر" جبهة النصرة وأحرار الشام، ووجوب قتالهم وقتلهم، إلا أن يبايعوا البغدادي.
*تساؤلات معلقة
كان للنزعة التكفيرية الجامحة لدى "باترشفيلي" تأثير بالغ السلبية على الوضع في سوريا، ساهم في شق صف كثير من الفصائل وإضعافها وسفك دماء الآلاف، وخسارة السيطرة على مساحات واسعة من الأرض، وتوسيع دائرة شكوك السوريين بمن جاؤوا لـ"نصرتهم"، وتأليب الرأي العام في المنطقة والعالم على الثورة السورية، وتقديمها بصفة حرب عصابات يتنازع أمراؤها على المناصب والمكاسب، بعد أن كانت ثورة لكسر قيد الظلم واسترداد الكرامة.. وغير ذلك من التداعيات التي استغلها النظام ليلتقط أنفاسه، ويجدد تلميع نفسه بوصفه محاربا لـ"إرهابيين دمويين"، وليس طاغية يقتل أناسا طالبوا بحقوقهم.
أخيرا، فقد كانت سنوات "باترشفيلي" القليلة جدا (3 سنوات فعليا) في سوريا، كافية لقلب المشهد رأسا على عقب، بشكل لم يكن ليتخيله ربما أشد أعداء الثورة السورية، وهو ما يبقي عشرات علامات الاستفهام معلقة تتساءل عن خلفية وقدرات وارتباطات الرجل صاحب اللحية الحمراء، الذي كان عنصرا فاعلا لدى وحدة النخبة في الاستخبارات الجورجية، يقاتل "الإرهابيين" بإشراف وتوجيه أمريكي، ثم ما لبث أن أصبح واحدا من كبار قادة التنظيم الذي يتوعد الولايات المتحدة بالويل والثبور.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية