أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سكاكين العقل السوري!.. ميخائيل سعد*

أرشيف

كل يوم يمر من حياة السوريين يحمل معه صورا فريدة عن أنماط التفكير المنتشرة بينهم، ورغم الدم الذي يلون صفحات حياتهم منذ خمس سنوات، إلا أن مُزقا من زوايا تلك الصفحات، تمرّ حاملة ضحكة أحيانا، وقصة حب أحيانا أخرى، وقصص "موت معلن" أحيانا كثيرة.

ولا يخلو الأمر من نميمة بحق أحدهم، سواء كان فردا أو جماعة، كنميمة "مايوه السباحة" أو نميمة القفز "فوق القارات" لتناول إفطار رمضاني، أو نميمة "الجنسية التركية"، أو "تنصير أحد اللاجئين السوريين".

وأمور أخرى كثيرة منها مثلا اكتشاف مفهوم "المثقف السمسار" أثناء الغوص في مواسم "نضالات" الهجرة "الإجبارية" نحو "الشمال"! بداية، أنا مع استخدام وتكريس "مصطلح" الثورة، لأن ما فعله السوريون، بعجره وبجره، هو ثورة، بل وثورة عظيمة، رغم ارتفاع موجات ورايات الأسلمة، ورغم "ذبائح السلطان الأسدي"، التي تضاهي في جودتها وأصالتها واتساع رقعتها، "ذبائح داعش".

ورغم عنوان رواية "خالد خليفة"، المطمئن، أن "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، مع أن المتحاربين جميعا، بمن فيهم أصحاب الأقلام، كانوا يشهرون "سيوفهم" ومدافعهم وطائراتهم وسفنهم الحربية، أو تلك التي تنقل المعونات أيضا، و"حبهم"، وكرههم وخوفهم، إلى شوارع المدن، بعيدا عن "مطابخها"، لذا لا يُلام الأديب "خالد خليفة" عندما لم يعثر على سكاكين المدينة في أمكنتها الحقيقة في المطباخ، لأنها هاجرت وهُجّرت لتستوطن عقول المثقفين والسياسيين ودعاة التدين والعلمانية، فخُيّل لهم أن لا ثورة في سوريا، ودليلهم قولهم: انظروا إلى "السطح السوري"، فماذا تجودون: داعش والنصرة وأحرار الشام وجيش الفتح، والقليل القليل من أفراد الجيش الحر، وحزب الله وفاطميون وعصائب أهل الحق ومرتزقة بشار ولطميات خامنئي والعاهرات الروس وجواسيس الأمريكان، وبعض الإسرائيليات المتسربلات بثياب "الإعجاب" وبفحولة بعض الشباب الكرد وهم يهاجمون "الحواضن الشعبية للأصولية الجهادية" لاجتثاث الأصول والفروع. ثم يعقبون: هل هؤلاء يفعلون ثورة؟! ببساطة، جوابي نعم، إنها ثورة، لأن كل هؤلاء موجودون للرد على الثورة التي لا يريد البعض رؤيتها، ولكي لا تـظهر للبعض الآخر، في محاولات مستمرة لإحباط النفوس، ولدعم مشاعر "اللامبالاة" عند بعض السوريين.

لو لم تكن ثورة، لما كان "مايوه أسود" يشغل "عقلاء" لمدة أيام، لم تشغلهم فيها رايات سوداء، لا يزال حملتها يغزون "السكاكين" في أعناق السوريين.

ولو لم تكن ثورة، أختلط فيها الحابل بالنابل، لما تجرأت كاتبة كبيرة، "يقلقها" اضطهاد النساء وذبحهم غسلا للعار، من محاولة استغلال أنوثتها كجسر عند أحد المثقفين الذي رفض تذوق ثمرتها المحرمة، فوجدت الفرصة لتكتشف، وهي تكدح لتكتب مادة تمدح فيها مثقفا "طهرانيا"، في مقابل "المثقف السمسار"، مسجلة "كشفا" أدبيا على حساب هذا "السمسار" الذي استضافها في بيته، وأطعمها من قروشه القليلة، إلا أن الإشادة "بطهرانيته"، وهو غير المعروف، لن تحقق لها "اللمعة" الفكرية التي تفتحها لها الإشادة "بطهرانية" الآخر، وهي تماما ما يشبه سلوك "العقلاء" الذي أثارهم "المايوه الاسود" لإحدى السيدات، فهاجموه، ليس دفاعا عن "الأخلاق"، وإنما بحثا عن الشهرة في أوساط من يرفعون الرايات السوداء القاتلة، وللمزاودة عليهم.

ولو لم تكن ثورة السوريين ثورة لما استطاعت تمزيق ثياب "التقدم" و"العلمانية" و"العقل" و"التسامح"، كاشفة عن عفن العقل ومحدوديته وقصوره وحقده على ذلك "الآخر"، لمجرد أن هذا "الآخر" قال له: إنك بسلوكك الصامت أو الداعم للاستبداد أنت شريك له في القتل وتدمير الوطن وتزوير الحقائق وتشويه ثورة الشعب السوري.

فكما قد قرأ بعضهم "المايوه الأسود"، على أنه تلويث لطهارة الثورة، ودليل على الفساد، وسبب فشلها في إسقاط النظام، كذلك فعل بعض من يصنفون أنفسهم "بالثوار العلمانيين"، فقد قرأ أحد هؤلاء، والأكثر فهما بينهم، أن حضوري لبعض إفطارات رمضان في اسطنبول وكتاباتي عن عادات الصيام الرمضاني مجرد "إعجاب بما ألتهمه من طعام". كتب هذا الشخص على صفحته الشخصية دون أن يسميني هذه الفقرة "معجزة الثورة، بالنسبة له، أنها أعادت له شبابه؛ فصار يتجول ويتسوّل، سفيراً بلا حقيبة، من قارّة إلى قارّة.. ومن ضيافة إلى ضيافة. و فاتورته بسيطة: التوقيع على صفحته الفيسبوكية، بكلمة تاريخية، يسجل فيها إعجابه بما التهم من أطعمة!".

هكذا وجد في اهتمامي بثقافتي ومحاولة الاقتراب أكثر منها، فرصة للسخرية من "معجزات الثورة" التي غيرت حياتي وحياة السوريين جميعا بما فيها حياة هذا الشخص، الذي لم يكن بعيدا، إلا باللفظ، عن ذلك الذي رأى في مايوه تلك السيدة سببا في فشل الثورة.

وهكذا كانت النتيجة عند هذين النموذجين هي الاقتراب من نظام الاستبداد. في محاولة مني لتفسير سلوكي الرمضاني في اسطنبول كتبت على صفحتي الفيسبوكية ما يلي: "عندما قررت الحضور هذا العام إلى اسطنبول، ارتأيت أن يكون حضوري في شهر رمضان، فقد قرأت وسمعت بعض ما كان يردده، كتابة، بعض أدباء الغرب عن عادات وطقوس العثمانيين في شهر الصوم، فرغبت في عيش الشهر بعيدا عن "الاكزوتيكا" الغربية، وأن استعيده كعربي حُرم طويلا من بلده وعاداته. كنت أتمنى أن أعيشه كمسلم تقي، ولكن ذلك كان صعبا، وفيه الكثير من الادّعاء لو فعلت، فأنا لست مسلما، ولست تقيا بالمعنى الديني، وكنت مضطرا أن أتلمس رمضان بعينيّ، وبعض الأحيان، بأذنيّ، أحيانا كمسيحي منشق، وأخرى كمسلم وافد من خارج دائرة الإيمان المُتداول، لذلك قبضت على نفسي أكثر من مرة وأنا أمارس سرا قراءة "أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"، وفي مرات أخرى، قراءة "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين"، وتختلط الحدود وتتداخل بين النصين، وأنسى نفسي عندما كنت أدخل بعض الجوامع وأسمع "الاڈان" فتتحرك أصابعي راسمة علامة الصليب على وجهي وصدري، وأخالني مؤمنا".

في تعليق بعض الأصدقاء، سواء كان الأمر مزاحا أو جادا، أنني لم أترك إفطارا رمضانيا يفلت من يدي، على أن الأمر جوع وفجعنة، ولكن الوحيد الذي فهم حالتي هو الصديق الحمصي "نجاتي طيارة" عندما كتب لي: "عزيزي ميخائيل، أنت فجعان حنين"، والحقيقة أنني كنت، ولا أزال أكثر من فجعان إلى كل ما يلامس ثقافتي العربية، الإسلامية، المسيحية الشرقية، فجعان ليس إلى الأكل وإنما إلى تمثّل وهضم كل ثقافة سوريا، وإعادة إنتاجها كما أحلم.

انتهى رمضان، ومرت أيام العيد، وتكاد إجازتي تنتهي، ولكن مازالت أحلامي تقول لي إنني سأعود. كل عام وأيام السوريين أكثر فرحا وأقل سوءا، هذا ما كنت أوقع عليه في صفحتي الفيسبوكية أيها "المثقف" الفهيم.

*من كتاب "زمان الوصل"
(172)    هل أعجبتك المقالة (169)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي