أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

العروس السويسرية والجنسية!..*ميخائيل سعد

سويسرية لكنها ليست عروس بل تشجع فريق بلادها لكرة القدم - ارشيف

عام 1993 زرت سويسرا بدعوة من أخي اللاجئ هناك لحضور حفل زفافه على صبية سويسرية، كانا يعيشان معا منذ سنوات، وربما كان في حساباته، بالإضافة إلى الحب، الحصول على الاستقرار والجنسية.

كان العرس مناسبة أخيرة كي أرى والدي الذي مات بعد 17 عاما نتيجة جشع الأطباء وانتشار الفساد في كل نواحي الحياة في سوريا، وكان للطب نصيب، فالجميع يسعى إلى الحصول على المال، مهما كانت الوسيلة سيئة، بما في ذلك انتزاع حياة البشر.

كانت مقدمات الثورة والحرب متوفرة في سوريا منذ أن قادها حافظ الأسد ووضعها على حافة الهاوية، مخيّرا الناس بين الطاعة العمياء له في مزرعته، أو دفع سوريا نحو الهاوية، وهذا ما حصل في عهد ابنه، الذي أطلق العنان لأقربائه ورجاله ينهبون سوريا دون رادع، لذلك كان المال حلم الجميع، وأصبح التباهي به من مظاهر الحياة اليومية، وغدا كل شيء في سوريا، بما في ذلك الوطن، قابلا للبيع، بعد أن سقطت القيم الأخلاقية والوطنية وتحللت العلاقات الاجتماعية.

في ذلك الزمن كنا أربعة إخوة ذكور من أصل خمسة قد أصبحنا في المهاجر، لأسباب متعددة، أهمها تقلص فسحة العيش في سوريا، التي لم نكن نبحث فيها إلا عن شروط الحد الأدنى من العيش الإنساني، ولكن أجهزة النظام منعت عنا، كما عن ملايين السوريين، هذا الحد الذي ارتضيناه، واستمر الضغط السياسي أو الاقتصادي أو الاثنان معا علينا، كما على السوريين، مما دفع اثنين منا للسفر إلى جزر الكاريبي، واثنين إلى سويسرا، وأنا إلى كندا.

لم تكن حياتنا سهلة ولكنها كانت تسير دون خوف من السجون أو الخطف أو الاعتقال التعسفي أو الخوف من اعتقال الزوجات أو الأخوات أو الأطفال والتهديد باغتصابهم أو قتلهم، لذلك كانت حياتنا مريحة نسبيا رغم قلة المال.

كان الزواج فرصة جيدة كي يلتقي من استطاع السفر من أفراد العائلة، وكان كذلك مناسبة لنتعرف على "كنتنا" السويسرية الشقراء، التي كان يشغل بالنا جميعا كيفية التواصل معها، والتعبير لها عن إعجابنا المسبق بها وبشقارها وببلدها، ولكن أخي "العريس" كان قد عثر على الوسيلة الفعالة لذلك، وهي تعليم الفتاة السويسرية اللغة العربية، التي أضحت اللغة "الرسمية" الوحيدة في البيت السويسري متعدد اللغات، وكانت العروس ترد على الجميع بلهجة "الضيعة السورية" التي خرجنا منها قبل أربعين عاما، يعني قبل ولادة زوجها.

وبما أنه أصبحت لنا "حصة" في سويسرا، جنة الأرض كما قدمتها لنا ثقافة الاستشراق، ولما كنا جميعا مسيحيين سوريين، فقد دارت نقاشات كثيرة في البيت عن واجب "تعريب" السويسريين كي نتفاهم معهم، بينما في بيوت المسلمين كان يجري الحديث عن "أسلمة" المجتمع السويسري، وأصبحت شخصيا مهتما بكل ما يصلني عن أخبار هذا البلد، الذي استطاع تطوير نظام الفيدرالية بطريقة مدهشة.

فقد جمع داخل حدوده الدولية مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، رغم منابتهم القومية المختلفة ولغاتهم المتعددة؛ فقد كان البلد الصغير مكونا من 26 كونتونا، وفيه أربع لغات وهي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانش (وهي لغة لاتينية قديمة)، وفيه ديانات وثقافات متنوعة، تصل أحيانا حد التناقض والتنافر، ولكن مع ذلك استطاع هذا البلد، الذي يبدو ضعيفا وهشا وقابلا للاختراق، أن يصمد في وجه كل الصعاب التي مرت فيها أوروبا منذ عام 1291 وهو عام تأسيس الاتحاد الفيدرالي السويسري، إلى يومنا هذا، وكل ذلك بسبب الرغبة بالعيش المشترك في ظل القانون وممارسة الديمقراطية المباشرة.

هذا الشعور القوي بالانتماء إلى البلد، دفع بسيدة سويسرية إلى القيام بعمل ضد زوجها، جعلها موضوع حديث الصحافة والإعلام والناس العاديين لفترة ليست قصيرة.

فقد اكتشفت هذه السيدة أن زوجها الذي كان مديرا لأحد المصارف، يتلاعب بحساباته الشخصية كي يتهرب من دفع ما عليه من ضرائب للحكومة، وبعد أن تأكدت أن زوجها كان يقوم بهذا التلاعب منذ سنوات، وبعد أن رفض الأخذ بنصيحتها وضرورة دفع ما عليه من ضرائب للدولة، التي تقدم لهم الرفاه والعدل والحماية، قامت بالاتصال بالجهات المعنية وأبلغت عن زوجها، الذي يدمر البلد لعدم قيامه "بواجباته" ودفع ما يتوجب عليه من ضرائب، حسب ما جاء في بيانها، وأنه بعمله ذلك فقد صفة "المواطن"، وتحول إلى عدو للوطن من خلال ممارسته للفساد، الذي قد يشجع استمراره فيه بعض ضعاف النفوس لتقليده.

لم تكن الحادثة تُروى، سويسريا، من باب الطرافة، ولكن من باب تثمين سلوك المرأة، كان هذا قبل "عولمة" النهب، و"عولمة الملاذات الآمنة". وكان الشباب العربي، في سويسرا وقتها، يحذرون بعضهم من "أخذ راحتهم" في الكلام، أمام زوجاتهم أو صاحباتهم السويسريات، عن أموالهم التي يتم تهريبها إلى الخارج، أو عن أي عمل غير قانوني يمارسونه، مستشهدين بقصة تلك المرأة التي أوقعت بزوجها لمجرد أنه لم يدفع ما عليه من ضرائب، وكان هذا السلوك لغزا غير قابل للحل في عقولهم، والسؤال الدائم على ألسنتهم في سهراتهم: كيف أصبح الوطن عند هذه المرأة أهم من الزوج؟

لم أكتب لأقول إن سويسرا هي جنة الله على الأرض، وهي ليست هكذا بالتأكيد، ولا إن الإنسان فيها يختلف عن إنساننا، ولكن كتبت كي أشير إلى أن الأوطان، كل الأوطان، فيها من الثغرات الكثير، التي يدخل منها الأعداء إلى داخل الوطن للعمل على تفتيته، من خلال اللعب على مظلوميات الناس، وهي كثيرة عبر التاريخ، ولا يمكن تجاوز هذه الألعاب إلا بالجواب على السؤال الذي كان يطرحه الشباب العربي الموجود في سويسرا: كيف يصبح الوطن أهم من الزوج والقومية واللغة والدين والطائفة في سويسرا؟

الجواب سهل وممتنع في الوقت ذاته، تأمين الشروط التي تجعل الإنسان مواطنا كامل الحقوق والواجبات، ومتساويا في ذلك مع غيره أمام القانون. 

عندما نجعل للناس مصلحة في الديمقراطية فإنهم سيدافعون عنها بأظافرهم وأسنانهم، ولا يتم هذا من خلال نقد الآخرين، رغم أهميته، ولكن من خلال نقد ذواتنا ومراقبة أعمالنا.

ليست المرأة السويسرية الوحيدة في العالم التي تدافع عن قيم وطنها من خلال كشف عيوب أقرب الناس لها، ولكن كنت شاهدا على ما قامت به امرأة تركية، ليس دفاعا عن النساء، وإنما دفاعا عن الحق الذي يحول الفرد إلى مواطن.

فقد كنت البارحة في مترو تقسيم، وأثناء خروجنا من باطن الأرض، أخذنا المصعد. ولما كان عدد الناس كبيرا، وقف كل منا بدوره ينتظر. يتسع المصعد إلى ستة أشخاص، إلا أن أحد الرجال قام بحركة "شطارة"، فدخل قبل سيدة كانت تقف في الصف قبله. رفض المصعد الحركة احتجاجا على الحمولة الزائدة، فالتفتت المرأة بكل صرامة إلى "الشاطر" وقالت له: "عليك مغادرة المصعد فورا، لأنك أخذت ما ليس لك، وأنا لن أتساهل بحقوقي". 

استدرك الرجل فعلته وغادر المصعد، أثناء الصعود، تابعت المرأة القول: من يتنازل مرة عن حقه، حتى لو كان صغيرا، سيأتي الوقت الذي يتنازل فيه عن كل حقوقه، لذلك كان لا بد من إعطاء هذا الرجل درسا، قبل أن يزداد جشعه وتجاوزه على حقوقنا وحقوق الوطن.

لعل كل ما سبق يؤكد فكرة أهمية تحويل سوريا إلى مزرعة لآل الأسد، ففي المزرعة لا حقوق للحيوانات، وهذا ما كان يعرفه ويريده الأسد، فهل نستطيع بناء وطن يكون السوريون فيه متساويين في الحقوق والواجبات، ونقهر كل المتربصين فينا؟!

*من كتاب "زمان الوصل"
(198)    هل أعجبتك المقالة (194)

ابو ابراهيم

2016-07-05

مقال جميل كالعاده ,ولو اني لااوافق بعض الافكار التي جاءت من خلاله ,لااريد دكرها الان.اما بالنسبة للطب وكثير من الاطباءوكدلك المستشفيات الحكومية والخاصة فحدث ولا حرج,الله يكون بعون المرضى,الحمدلله اني لم اعمل كثيرا في تلك الاماكن لانني لم استطع تحمل ما كنت اراه,مرضانا مساكين بايدي الكثيرين ممن يسون طاقم طبي,اقول ثانية ليس الجميع ولكن الاغلبيه.


saeed

2016-07-05

نعم نستطيع ولم لا , فالحرية تخلق المعجزات والكرامة تولد التضحية وهما عماد البناء.


محمد علي

2016-07-08

العدالة استاذ مخائيل ،،،،، العدالة هي المفتاح للدولة او للدول التي نريدها في منطقتنا ،،،، " ينصر الله الدولة العادلة لو كانت كافرة...... و يذل الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة " او بهذا المنعى و اظن انها مقولة للحسن البصري ،،،، و نذكر قصيدة الشاعر االرائع العراقي احمد مطر هات العدل ..... و كن طرزان ..


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي