لم تبرد حمأة أخبار رسالة الرئيس التركي إلى نظيره الروسي، وإعادة تطبيع العلاقة مع إسرائيل، ليستهدف تفجير ثلاثي متزامن مطار أتاتورك، موقعاً نحو 200 ضحية بين قتيل وجريح.
من هو صاحب هذه الرسالة، وفي أي مظروف سياسي بعثها في هذا التوقيت، تلك أسئلة في الإجابة عليها يمكن فهم مستوى الصدمة التي أحدثها أردوغان.
ليس من الفطنة مناقشة تطورات الوضع السياسي في تركيا بعيداً عما يجري في سوريا، فلهيب النار المشتعلة جنوباً ترك أثره العميق، ولم تكد تركيا تأخذ مسافة من نظام الأسد منذ النصف الثاني من عام 2011 حتى شرع النظام السوري في تأهيل وإنعاش الحركات الراديكالية المعادية للدولة التركية، سواء داخل تركيا عبر حزب العمال أو فصائل متمرده من العلويين لها امتدادات داخل أجهزة الدولة، أو حتى عبر الأراضي السورية وعلى طول الشريط الحدودي الممتد لمسافة تصل إلى 850 كليومتراً من أقصى الشرق وحتى البحر المتوسط.
أدرك الأتراك منذ اللحظة الأولى أن مظلة كبيرة تحمي الأسد، لم يستطيعوا التدخل عسكرياً، واكتفوا بدعم لوجستي لفصائل مقاتلة، وكانت حصتهم الأكبر في هذه الحرب نحو 2.8 مليون لاجئ سوري.
تصاعدت وتيرة الصراع وزادت إيران من تدخلها على الأرض، وأعقب ذلك التدخل الروسي المباشر، وكان سبب الحساسية الشديدة للموقف التركي هو عدم حسم أنقرة لخياراتها السياسية –الاقتصادية، إذ إن خيار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو التقارب معه، دفع الروس لإزعاجها عبر تقوية أعدائها على الأراضي السورية بدل استهداف تنظيم الدولة، بل وصل الأمر إلى استهداف مناطق التركمان وتهجيرهم، ومحاولة وصل الكانتونات المفترضة للأكراد بإسقاط "تل رفعت" ثم حصار منبج، وهذا ما يبدو بأنه يتم بتوافق كردي مع الروس والأميركيين، لكنه لن يدوم طويلا.
كان لا بد من متابعة قلق تركيا الشديد من رخاوة الموقف الأميركي إزاء التهديدات التي تتعرض لها أنقرة، ومن ثم حالة التشتت الأوروبي بسبب تباين الآراء مع تأثير واشنطن في موقف بعض الدول.
الأميركي في معركة الشرق الأوسط المشتعلة، يبدو كجنرال يضع على بزته مئات الأوسمة التي تقيد حركته، هو يريد أن يضع يده في كل التفاصيل لكن لا يريد لغبار المعركة أن يلوث البزة، فيما الروسي بدا رشيقاً، وليس لديه ما يخسره بعد أن تعرض لضربة قوية في عصب اقتصاده، بانخفاض قاتل في سعر البترول.
إيران هي الأخرى تخوض معركة عقائدية واستراتيجية، مستغلة ملف النووي، لقد استطاعت أن تضع خمسة رؤوس حامية على طاولة النووي، فيما جلست هي تفاوض على مهلها برأس بارد، قيدت الأميركي والأوروبيين، وليس لديها ما تخسره في اشعال المنطقة، فدخلت في صراع مذهبي مؤلبة الشيعة في عدة دول، وزد على ذلك فهي قادرة على دفع فاتورة حماس "السنيّة" لإبعاد الشبهة، واحتباس القضية الفلسطينية كطبق دائم على الطاولة.
تبين مع الوقت أن كل الدول التقليدية غير العربية المنخرطة في صراع المنطقة وخاصة في الحرب السورية تربح، وأن تركيا الوحيدة التي فقدت علاقتها بروسيا، واكتشفت الضعف الأوروبي، والتلوَّن الأميركي، ومع سوء علاقتها بإسرائيل ومصر، ووجود عائق جغرافي ممتد من العراق إلى مصر أمام فوائد تقاربها مع السعودية فإن استمرار الأمور على ما هي عليه يقود إلى الهاوية.
ما سبق يفسر حقيقة الخلاف بين تيارين داخل حزب العدالة والتنمية، الأمر الذي انتهى باستقالة رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، ومن ثم الوصل إلى نقطة البدء بتنفيذ استراتيجية مختلفة تماماً، ربما ليس في أولوياتها البحث عن مصير الأسد، لأنه سيكون جزءاً من تفاهمات أكبر، وربما يكون أحد التفاصيل الصغيرة في هذا التحول، وطالما أن الروس قادرون على جلبه في أي لحظة فإن عملية تأهيله لا تؤرق موسكو، وهي بالنتيجة فرضية غير واقعية، بل وقد يكون العكس هو الصحيح.
أردوغان الذي قارع بوتين وإسرائيل، لا يبدو أن في شخصيته من الخصائص ما يسمح أن يجلس يوماً على طاولة مع الأسد، وإن كان الأمر وادراً فالأخير بات صغيراً لدرجة أنه يشعر بالنشوة في لقاء وزير الدفاع الروسي دون أن يتم ترتيب هذا اللقاء معه مسبقاً، ما يعني أن التأهيل في أسوا احتمال قد يكون لشخصية أخرى من داخل النظام، أو من الوجوه المقبولة والتي تم وضعها على دكّة الاحتياط، وليس الأسد.
إذن ما سر التفجيرات التي أوجعت تركيا، وما الفوائد، ليس الأمر لغزاً مستعصياً، إذ إن هناك متضرراً من الانعطافة التركية، وهو متضرر من مستوى دولة تملك أجهزة استخبارات تخترق التنظيمات الراديكالية والمتشددة الإسلامية والكوردية، وعلى الأغلب فإن الجهة الأكثر تضرراً بالتحليل السياسي هي إيران، ومن المؤكد أنها في ذات الوقت تشعر بضيق وهي ترى أن أنقرة ذاهبة إلى تصفية خلافاتها مع اللاعبين الأساسيين في المنطقة.
بطريقة ساذجة يمكن القول إن الأميركيين متضررون أيضاً من التحولات التركية، وهذا يستدعي ردّا ساذجاً بأن الأميركيين لاعبون محترفون، وقد لا يعنيهم تمرير وخزة لأنقرة، أليس البيت الأبيض هو المظلة التي منعت سقوط الأسد، أليست إدارة أوباما هي التي ترقص التانغو مع إيران، أليست من يرعى ويسلح فصائل كردية باسم محاربة داعش... إذن لعل في السذاجة حكمة أحياناً.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية