إذا كانت الخطيئة الأولى نتاج تلبيس إبليسي شيطاني قابله ضعف بشري فإن الجريمة الأولى في التاريخ كما ينقلها النص الديني كانت إنسانية بامتياز..كان الوازع هنا بشري لكنه في نفس الوقت يأتي في إطار مفهوم القدر الأشمل كما يقدمه النص القرآني..كان هناك أولا فعل قيام القاتل و القتيل بتقديم القرابين للإله الذي تقبل قربان أحدهما و امتنع عن تقبل قربان الآخر..هنا يعلل النص هذا الموقف الإلهي على لسان القتيل ( إنما يتقبل الله من المتقين ) ( المائدة – 27 )
..كان اعتراض القاتل هنا ينصب على حالة الرفض الإلهي لقربانه رغم أنه وجهه نحو أخيه صاحب القربان المقبول من الإله مهددا إياه بالموت..طبعا هنا النص يضطر لهذا التحريف لأنه يبقى من المستحيل بالنسبة للنص تحدي إرادة الإله من قبل إنسان..هذا الموقف الثائر من قبل القاتل سيقابله القتيل باستسلام مستغرب يمتنع حتى عن ممارسة الدفاع عن النفس..يعلل القتيل هنا هذا الاستنكاف عن الدفاع عن نفسه بقوله ( إني أخاف الله رب العالمين ) ( المائدة 28 )
هذا رغم أن النص يشرع في أماكن كثيرة حالة الجهاد دفاعا عن النفس و يطورها في مرحلة لاحقة إلى جهاد في سبيل إعلاء كلمة الله..إن القتيل هنا لا يتعامل بتسامح مع قاتله لكنه ينشد الانتقام بطريقة أخرى ( إني أريد أن تبوأ بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين ) ( المائدة 29 )..
ينتهي القاتل بقتل أخيه ثم رؤيته الغراب و هو يدفن جثة غراب آخر في التراب فيقوم بنفسه بدفن أخيه كما علمه الغراب و ينتهي به الحال ( فأصبح من النادمين ) ( المائدة 31 )
هذا طبعا عدا عن كونه قد أصبح من أصحاب النار بتحقق نبوءة أخيه المقتول..هنا كما في حالة إبليس تتركز القضية في الموقف من القدر من المشيئة الإلهية في الاستسلام أو الاحتجاج على هذه المشيئة قبل أي شيء..أي أن القضية هنا لا ترتبط بالاعتراف بوجود الإله الذي كان إبليس في أكبر مراتب القرب منه قبل خلق آدم الذي كان بداية محنته أو كما نرى النص يؤكد قيام قابيل بتقديم القرابين للإله أي أنه ليس فقط يقر بوجوده بل و يمارس عبادته أيضا..
حيث يشكل هذا الموقف من القدر أساس المصير النهائي للإنسان بين استسلام يقوده إلى النعيم الأبدي و احتجاج يستحق عليه الحكم بالعذاب الأبدي مصير كل الثائرين على قدرهم على الأمر الواقع كتعبير عن إرادة الله..هنا يمثل قابيل المقابل البشري لإبليس الذي شارك قابيل تمرده على القدر و واجهه بشجاعة و تحدي حتى النهاية مهما كانت العواقب..
هذا النموذج السلبي وفق النص الذي يحمل في قلبه جذوة التمرد و الثورة على قدره يختلف عن بروميثيوس سارق النار من مساكن الآلهة رغم أنهما يشتركان في نفس المصير بروميثيوس هنا يسرق سر الآلهة ليقدمه إلى البشر ليصبحوا في وضعية أقرب إلى الآلهة ليساهم في نزع قدسية المقدس و في تقريب الإنسان من وضعية الآلهة..
يقابل هذا النموذج السلبي نموذج آخر إيجابي كما يقدمه النص هو القتيل الذي يتعامل مع قدره باستسلام متطرف يصل إلى درجة أن يستسلم لقاتله فيختار بذلك القدر المشيئة الإلهية نفسها لتنتقم له من قاتله..تشبه ثورة قابيل على قدره هنا ما رآه نيتشه في ديونيسيوس في الإنسان المتفوق الذي يتسلم قياد حياته و هو مدرك لتفاصيل مأساته الخاصة بشجاعة لكنه بالتأكيد لم يعد عبدا كما كان أجداده
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية