وصار، إثر الفجائع بالمناضلين التاريخيين وثورجية الأمس، أن ينفخ السوريون على اللبن، لكثرة ما حرقهم الحليب، بعد أن راهنوا مطلع ثورتهم على بياضه المصطنع وما يُقال عن نقائه وعدم قبوله الغش أو الامتزاج مع زفر.
بيد أن ثمة سوريين، لم يبتعدوا عن الأضواء فحسب، بل آثروا عمل الخير والنضال على طرائقهم في الظل، ليؤكدوا على قلتهم، وبحسب مطلع أغنية للمسعور جورج وسوف "لسا الدنيا بخير يا حبيبي".
بالأمس، غيب الموت حمدو بري من معرتمصرين بإدلب، وهو مجرد مثال عمن تزخر سورية بأمثاله، لم يشأ القرار الدولي ولا الممولون إظهارهم، أو الساسة والمثقفون منهم، لئلا يعروا الواجهات التي اختصرت سورية عمداً وللأسف، بهم.
ولو سألنا السوريين عن أبي بري، فربما غير المحيطين به لا يعرفونه، بل وقلما من يعرفه يعلم عنه ما كان فيه من عادات، تدفعني دونما تردد- ورغم زمن الخيبة بالأشخاص والتوبة عن المراهنة على أحد- للقول: أبو بري يمثلني.
سآتي على بعض أفعال أبي بري، علّي أفي هذه القامة الاجتماعية بعض حقوقها بعد الموت، لطالما أبى الرجل الشهرة وإعلان ما يفعل، بل ويعتبر كل سلوكياته، واجبات والشواذ فيمن لا يفعلها.
كان أبو بري طياناً أو "مليّس" أو مزرقاً، حسب اللهجات السورية، وكان الأجر الذي يتقاضاه على متر الطينة هو الأعلى على مستوى المنطقة، وإن جادلته بالسعر وقلت له فلان يتقاضى كذا، يجيبك بكل هدوء وثقة.. اذهب إليه دونما تردد.
ولكن إن علمت أن أبا بري من المهارة واتقان العمل ما يجعل طينته أبدية ومضرب مثل، فستعلم وقتها سبب ارتفاع أجره، وكأنه في تلك العادة يريد تكريس إتقان العمل أولاً ووضع معايير للمهنة ثانية، وكشف دخلاء المهنة بشكل غير مباشر ثالثاً.. وتسويق مقولة "لست غنياً لأشتري سلعاً رخيصة" رابعاً.
وضمن مثال الطينة ذاته، تأتي ربما أهم عادات أبي بري، فهذا الرجل لم يقل لطالب عمل قط لا، للحد الذي تفيض عمالته أضعاف المرات عن حاجته لها، فيما يسمى بعلم الاقتصاد، بطالة مقنعة، فما إن ينتهي العام الدراسي حتى تتوافد الأمهات لبيت أبي بري يطلبون زج ألادهن معه بالورشة، ليبتعدوا عن الشوارع وتقوى بناهم الجسدية، والأهم اكتساب الرجولة والمهنة عن أبي بري.
والرجل لا يقول لا، بل على العكس، كان يشعر كل امرأة تطلب عملاً لابنها، أن المحروس سينتشل الورشة من بطء الإنتاج وسيخلق تحريضاً وتنافسية بين أقرانه، بل وأبو بري ينتظرها لتأتي بابنها لدرجة كان سيذهب مساء لرجائها بمنحه شرف تشغيل الولد.
أما المذهل بعادات أبي بري، والتي لم أسمع مثلها من قبله، فكانت أن الرجل يدعو وكل يوم جمعة، دراويش المنطقة "أنصاف مجانين ومجانين" لتناول وجبة الغداء، وليس أي طعام طبعاً، إذ يوجه أبو بري الدعوة على الشواء في مطعم صديقه بمعرتمصرين، ويبدأ الدراويش منذ بعيد صلاة الجمعة للتوافد ومطالبة أبي بري بتشكيلة الشواء والسلطات، للحد الذي جعلها عادة ولهم فيها عند أبي بري، حق مكتسب.
وفي سياق كرم المرحوم الخاص، أنه مرة دعا أصدقاء لتناول السمك المقلي ببيته، وأثناء تناول الطعام استبسلت هرة بموائها وتقربها من أبي بري، فما كان منه إلا أن رمى لها أكبر فرخ سمك بالمائدة، ولما ضج بعض المدعوين محتجاً، أعطها الحسك إن لن تضربها، أجاب أبو بري بهدوء: لك حرام ولووو هذا نصيبها.
قصارى القول: هب السوريون بثورتهم طالبين الكرامة والحرية والعدالة بتوزيع الثروة والفرص، وأبو بري لا ناقة له بالسياسة ولا جمل، كما أنه بلغ من العمر عتيا، بيد أنه كان من السباقين بمعرتمصرين للخروج بصفوف الثوار أيام السلمية، فما من مظاهرة ليلية أو نهارية، بطقس مشمس أو ماطر، إلا وأبو بري يتقدم جموعها، يسير ضمن ركب المتظاهرين صامتاً فرحاً كمن يسعى لختم حياته بعمل وطني.
ودارت الأيام وتسلحت الثورة وتبدل وجهاء البلدان بعد أن دخل الغرباء واحتل بعض المرضى واجهات العمل الثوري، لينزوي أبو بري ويلتزم بيته، بعد أن تبرع وأطعم وثار، ليعاني من الفقر وحتى الجوع وهو رهين محبس بيته لا يعلم بمصيره إلا الله، وقلة من الأوفياء.
مرة، أرسل صديق مساعدة مالية لأبي بري، بيد أن الرجل ورغم الفاقة التي أوصلته وأهله حد الجوع، رفض أخذها لأن من هم بحاجة أكثر منه على حد قوله.
نهاية القول: لم يمر ثورة عبر التاريخ ربما، بمحاولات تشويه وقتل، كما مرت وتمر الثورة السورية، ولعل أسباب الانزياح أكثر من أن تعرض هنا على عجالة، كما أن جلها غدا من البديهيات بالنسبة للسوريين، بيد أني أحسب أن العامل الأهم في رخاوة الثورة السورية لدرجة اختراقها وتشويهها والعبث بها ممن يشاء ويهمه الأمر، هو افتقارها لحوامل وقادة يتمتعون بما كان في أبي بري من غيرية وكرم ورجولة ...وإن يتطلب الأمر أيضاً، اتقان السياسة التي كان يفتقدها المرحوم.
*عدنان عبد الرزاق - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية