أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

يوميات رمضانية من اسطنبول.. ميخائيل سعد*

إحدى موائد الإفطار في ساحة "تقسيم" - زمان الوصل

ليس جديدا أو مستغربا أن تكون عيون الغرب مسلطة على اسطنبول في رمضان هذه الأيام، فهو طبيعي، فقد قال عنها نابليون الأول عام 1807: "القسطنطينية! القسطنطينية! ….انها إمبراطورية العالم!".

ويقول عنها قادة العالمين الغربي والشرقي الآن، إنها (أي تركيا) تعيق مشاريعهم في سوريا والعراق وفلسطين، فهل يكون الرمضان الاسطنبولي عائقا لانـضمام تركيا للانحاد الاوروبي المزعوم؟ وهل سيكون لرمضان هذا العام طعم مختلف؟ سأترك الإجابة عن الأسئلة السياسية للمختصين، وهم والحمد لله كثر، وأكتفي بمتابعة الجانب الاجتماعي والاقتصادي من شهر رمضان الاسطنبولي.

قررت الخروج من البيت، في اليوم الأول من رمضان، في التاسعة صباحا لاكتشاف متغيرات الحي الاسطنبولي في هذا اليوم.

أولا، ولكي تكون الصورة واضحة لدى القراء، يجب علي أن أحدد الحي الذي أسكنه، ونوعية سكانه، قبل كتابة ملاحظاتي لارتباطها بظروفها الاجتماعية والاقتصادية.

ولا بد من القول إن ملاحظاتي هي نتيجة المشاهدة فقط، وينقصها العمق لأنها غير مستندة إلى معرفة كتابية أو شفوية، نتيجة جهلي للغة التركية.

أسكن في حي يتبع رسميا للشيشلي، سكانه من الأتراك والأكراد وبعض الوافدين للعمل أو السياحة الفقيرة.

قبل مغادرة البيت، كان في ذهني صورة مسبقة عن اليوم الأول من رمضان، تعود جذورها إلى الحياة الاجتماعية في المدن السورية عامة، وحمص قبل أكثر من ربع قرن. لذلك فاجأتني رؤية جارتنا التركية الستينية وهي تنظف زجاج نوافذ بيتها، كما كانت تفعل قبل رمضان، دون غطاء رأس.

في زاوية الحارة، كان فرن المعجنات يفتح أبوابه للزبائن كالعادة، على الرصيف المقابل كان ثمانية من العمال الأفارقة ينتظرون أحدا بحاجة لعضلاتهم، في أعمال البناء أو الحرف أو غير ذلك. في الشارع الرئيسي المعروف باسم "دولاب دير" كانت كراجات السيارات كلها تعمل، وبعض العاملين أو أصحاب المحلات يدخنون وهم تحت السيارات أو بقربها.

عتال يجر عربته الضخمة صعودا، ولكن ذلك لم يمنعه من التدخين. اجتاز الشارع العريض وأدخل في الحارات الجانبية لمراقبة الحياة الشعبية فيها.

امرأة أربعينة، كما أظن، تفتح شباكها كي تسقي ورودها، حاولت اصطياد نظراتها ففشلت، لأنها لم تنظر إلى الزقاق حيث أسير.

أثناء العودة إلى البيت، رأيت شابا يتناول الشوربة في مطعم صغير، كانت الساعة الحادية عشر. كانت مشاهداتي ضعيفة، ومخيبة للآمال؛ لم أشاهد شيئا يذكرني برمضان الذي أعرف، وقلت لنفسي: ربما أنا موجود في حي "لا يصوم" لأسباب متعددة.

قررت الذهاب إلى الحي الشهير المعروف بـأنه حي إسلامي، قاوم علمانية أتاتورك، اسمه حي الفاتح، نسبة إلى جامع محمد الفاتح، الذي يشكل محور الحي.

في طريقي من البيت إلى موقف الباصات في تقسيم، كي أستقل باص الفاتح، لاحظت أن المطاعم التي أمر بقربها، شبه خاوية.

لست متأكدا هل كان ذلك بسبب رمضان أو أن وقت الغداء لم يحن بعد. في ساحة تقسيم، وهي لمن لا يعرف، تقع في قلب حي "بي أوغلو"، وتقوم فيها الكثير من النشاطات الثقافية والسياسية، ويتوسطها نصب تماثيل لجنود أتراك قاوموا الاحتلال الأوروبي لتركيا بعد الحرب العالمية الأولى، وبينهم كمال أتاتورك، كانت الساحة مزينة بالعلم التركي وعلم بلدية "بي أوغلو"، بحثت عن علم إسلامي، أو إشارة تدل على احتفال ديني، فلم أعثر على ما يؤكد زعم بعضهم بأن حزب العدالة والتنمية يحاول "أسلمة" المجتمع.

كان وجود الكثير من الكراسي البلاستيكية البيضاء والطاولات يدل على أن نشاطا ما سيقام هنا، فقدرت أن إفطارا رمضانيا جماعيا، ومجانيا سيقام في الساحة مساء، في موعد الإفطار، وقررت حضوره، للتصوير ولتناول الإفطار.

نزلت من الباص عند مدخل جامع الفاتح، صعدت الدرج الذي يقودني إلى ساحة الجامع. أول ما لفت انتباهي بيت نظيف للقطط وأمامه الطعام والماء، ورأيت مجموعة من القطط حديثة العهد بالحياة تتجول في المكان، غير مهتمة بالعابرين، وغير خائفة، فهي تعرف أنها آمنة، ولا يعتدي عليها أحد.

في الحديقة الخارجية للجامع، رأيت رجالا ونساء يجلسون على المقاعد، في ظلال الأشجار، كان عدد النساء أقل من عدد الرجال، وبعضهن لا يضعن غطاء للرأس، وبعضهن يضعنه مؤقتا، ربما بسسب تواجدهن في حديقة الجامع في شهر رمضان.

وأنا في صحن الجامع رأيت شابة تدخل إليه مرتدية قميصا نصف كم، انتطرت أن يتقدم منها حارس لتنبيهها إلى ضرورة وضع غطاء ما، ولكن هذا لم يحصل.

في الأسواق المحيطة بالجامع، رأيت مطعمين سوريين مغلقين بسبب رمضان، ورأيت مطعما تركيا واحدا مغلق الأبواب، وقد تركت ورقة على بابه تشرح سبب إغلاقه.

على باب الجامع تماما كان هناك بائع مياه باردة، بقية المحلات التجارية تمارس أعمالها كالعادة من حيث ترتيب البضاعة أو البيع.

في الأماكن المحيطة بالجامع لم أرَ أحدا يأكل أو يشرب، بينما في شارع الفاتح الرئيسي كانت بعض المطاعم الكبرى تحضر نفسها لساعة الإفطار.

المكان الأول الذي رأيته مزدحما كان عبارة عن مطعم ومقهى، فيه أكثر من عشر نساء يتناولن القهوة أو الكاتو، لفت انتباهي امرأة محجبة، تجلس قرب الواجهة الزجاجية، تتناول نوعا من الحلوى.

عدت إلى البيت مصمما على تأجيل إرسال المقال إلى الجريدة إلى ما بعد الإفطار الجماعي لليوم الرمضاني الأول وكانت "تقسيم" هي الهدف، وليست ساحة جامع السلطان أحمد، أو الجامع الأزرق، الذي رأيت ما يقارب خمسة آلاف كرسي، على الأقل، يتم نشرها للإفطار الجماعي الكبير، عاقدا العزم على زيارة المكان غدا، في اليوم الثاني لرمضان.

في موعد الإفطار، رافقني إليه الصحفي الزائر إلى اسطنبول معن البياري والصحفية سميرة المسالمة، نائبة رئيس الائتلاف.

كان في الساحة أكثر من خمسمائة صائم ينتظرون موعد الإفطار، الذي تم الإعلان عنه برفع الآذان بالعربية والتركية، أعقبته قراءة الفاتحة ثم المباشرة بتناول الطعام.

شعرت بالحزن على السوريين وأنا أفتح كرتونة الطعام الساخن والفاخر، وكان قد تم توزيع وجبة على كل شخص من الحضور دون استثناء، تتضمن شوربة ساخنة، وبطاطا مقطعة مع لحمة، إلى جانب صحن من الأرز، وقطعتين من الحلوى، وعلبة عصير، وزجاجة ماء، وقطعتين من "البيتي فور"، مع طاقم من السكاكين والمعالق والشوك البلاستيكية، ومحرمة مغلفة ومعطرة لتنظيف اليدين.

لم أستطع منع نفسي من الضحك والتفكير بصوت مرتفع مع زملائي عندما خطرت ببالي مزاعم "العلمانيين" العرب عن محاولات أردوغان لأسلمة المجتمع التركي، وتساءلت: أين هي هذه "الأسلمة" بعد أربعة عشر عاما من حكم العدالة والتمنية التركي، في هذا الإفطار المختلط، وفي مشاهداتي، التي حاولت أن تكون منحازة، ولم أوفق؟ أخيرا، كل ما أستطيع أن أقوله، أو كل ملاحظاتي المجموعة نتيجة زياراتي في اليوم الأول من رمضان الاسطنبولي، مقارنة مع ما أعرفه عن المجتمع السوري، أن إيمان الناس هنا إيمان فردي، ينبع من داخل الفرد وغير مفروض عليه من الخارج الاجتماعي أو السلطوي، إنه الإسلام الحر الذي يصيغ إنسانا حرا.

*من كتاب "زمان الوصل"
(157)    هل أعجبتك المقالة (175)

محمد علي

2016-06-08

شهادة و كلمة جميلة و مقال انساني بامتياز ،،،، سلمت يداك مخائيل سعد.


ابو ابراهيم

2016-06-10

شكرا على هدا المفال الجميل ,نامل المزيد.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي