السوريون كغيرهم من البشر، في حركة نزوحهم ولجوئهم، يتفتتون إلى أفراد ثم يحاولون التجمع من جديد بمجرد أن يتوقفوا في مكان ما أثناء ترحالهم، وهذه حالهم، بعد خمس سنوات من مأساة لجوئهم والتوقف القسري، في اسطنبول.
زائر اسطنبول السوري يكتشف، الآن، سريعا أن ملامح استقرار سوري بدأت ترتسم في بعض زوايا وشوارع المدينة العريقة، التي يقال إن نصف مليون سوري قد قرروا أن تكون بيوتهم فيها، وخاصة بعد لجم التدفق السوري إلى أوروبا.
قد تكون أهم الإشارت إلى هذا الاستقرار هو وجود شباب وشابات في الكثير من المحلات التجارية والأماكن السياحية يتكلمون التركية والعربية معا، ولهجاتهم تدل على أصلهم السوري.
تقول إحدى الدراسات الكندية إن نسبة عدد المهاجرين الذي يعودون إلى أوطانهم الأصلية بعد مضي خمس سنوات على وجودهم في كندا لا تتجاوز الخمسة في المئة، أما البقية منهم فإنهم يقررون البقاء في موطنهم الجديد، رغم استمرار حلمهم بالعودة إلى أوطانهم الأصلية، الذي يتحول مع مرور الزمن إلى مجرد رغبة زيارة مؤقتة.
ورغم عدم تطابق هذا الوضع مع حال السوريين اللاجئين، إلا أن استمرار الأزمة السورية، وتجاوزها للسنوات الخمس، دفعت الناس للبحث عن أماكن للاستقرار بعد أن تراجع أملها بالعودة السريعة إلى بيوتها ووطنها، فبدأت تحفر بأصابعها مواضع حجر الأساس لحياة جديدة.
من مظاهر هذا الاستقرار ما قالته لي جارتي السورية المحجبة، إن الكثيرات من السوريات المحجبات قد قررن التخلي عن الحجاب السوري الذي يشير بوضوح إلى أصلهن السوري ويعرضهن للتمييز، واستبداله بالحجاب التركي، رغبة منهن في التماهي مع المجتمع التركي.
كما أن من مظاهر هذا الاستقرار أن الكثير من السوريين الذين كانوا يضعون أولادهم في مدارس خاصة أسسها سوريون في اسطنبول وغيرها من المدن التركية، قد نقلوهم إلى مدارس تركية، ليس فقط لأنها أقل كلفة ماليا، وإنما لأنهم شعروا أن حياتهم ستطول هنا، وأن الأفضل لأولادهم تعلم اللغة التركية والتأقلم مع الحياة التركية، وقد يكون مستقبلهم بالكامل هنا.
بعيدا عن حاجات الأكل والشرب، التي هي أولى الحاجات التي يسعى الإنسان إلى تلبيتها في أزمنة القلق وعدم الاستقرار، نلاحظ في اسطنبول، ظهور خدمات جديدة مرتبطة بالاستقرار أو الإقامة المؤقتة ولكن طويلة الأمد، تلبي حاجة الإنسان إلى ما هو أبعد من الطعام والشراب؛ تأمين شروط ومتطلبات الحياة الثقافية، تأمين أماكن اللهو والمتعة، تأسيس المشافي والعيادات الطبية، انتشار ثقافة المطبخ السوري، وانتشار المكتبات، انتشار موسيقى الشوارع، وغير ذلك من أنشطة تقول، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن السوري بدأ يتأقلم مع محيطه الجديد، مكتسبا عادات جديدة، بعيدة نسبيا عما ألفه في حياته السورية السابقة.
في محاضرته التي أقامها له "هامش" منذ أسبوعين تقريبا، ذكر غسان الحاج: "أن هنالك فكرة رائجة في الدوائر الثورية المتشددة تقول إن المغلوبين غير قادرين تعريفاً على عيش حياة طيبة.
بل هنالك فكرة أسوأ تقول إنه ليس للمغلوبين أن يطمحوا إلى عيش "حياة طيبة"... إلى حين يتحقق "النصر". الحياة الطيبة تأتي فقط بعد النصر. على الأقل هذا ما يحاول البعض قوله لنا.
كنا جميعا، ولا نزال، نسمع ونرى نزق بعض "الثوريين" عندما ينشر أحدنا صورة لمائدة طعام، أو صورا لمدن سافر إليها أحدنا، أو فيديو غناء أو رقصا لفنانة، متهمين الناشر بقلة الوفاء لدماء السوريين، أو عدم تحسس الجوع وحرمان المناطق المحاصرة من الطعام والشراب، أو لوم بعضنا إلى عدم توفير ثمن فناجين قهوتنا لدعم الثورة والثوار.
مع تقديري البالغ لحساسية هؤلاء الناس، إلا أن من واجبي وواجب غيري الإشارة إلى أن الحياة يجب أن تستمر بالشكل التي هي عليه خارج دائرة المعارك، بل إنه أحيانا مطلوب عيشها داخل تلك الدوائر نفسها، لأن الإنسان ليس آلة تتغذى على الحزن أولا، ولأنه ثانيا بحاجة "للحظة السعادة"، أو كما قال الدكتور الحاج: إلى ممارسة الحياة الطيبة حتي لو كانت هذه الحياة مختصرة في سيكار كوبي، علي طريقة سيكار غيفارا، أو في تناول فنجان قهوة، أو في أغنية عاطفية او في سماع قدود حلبية، كما حدث مساء السبت في مكتبة "صفحات" في اسطنبول.
من الأنشطة السورية المستحدثة، والتي تدل علي حالة الاستقرار، التي تسير باتجاه الرسوخ في المدينة التركية، التي كانت عاصمة أجداد هؤلاء السوريين علي مدار أكثر من أربعمائة عام، افتتاح دار نشر ومكتبة "صفحات" في حي الفاتح، وقيامها بنشاطات متعددة للاطفال والكبار، غير بيع الكتب، هو إحياء أمسية موسيقية غنائية مساء كل سبت.
السبت الماضي كان لي حظ الحضور وسماع الفرقة المكونة من أربعة عازفين ومطرب. وقد لفت انتباهي الحضور الكثيف للشباب والشبات من سوريين وعرب وأتراك وأكراد، وأعتقد أن بعض الأوروبين كانوا بين الحضور.
أدى المطرب الشاب القدود الحلبية بمهارة الفنان المتمكن من مهنته وكذلك فعل العازفون، وكان الطرب هو ما شكل لحظة "الحياة الطيبة" في عالم البؤس الذي يخيم علي حياة اللاجئ السوري، مما دفع بالمطرب للقول مازحا إنه يغني للألم، ولكن السعادة، مع ذلك تشع، من وجوه الجميع، هذه السعادة، كما قال: تعبر عن الحب بين الشباب والصبايا، تعبر عن الرغبة في الحياة ومقاومة الموت.
خلاصة القول هي دعوة السوريين للحياة والتأقلم، ومتابعة النضال والثورة إلى أن تنتصر أحلامنا في الحرية والعدالة، ولن يكون الموت عائقا أمام أحلامنا مهما كان شكله شنيعا، فحب الحياة سيكون أقوى دائما.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية