في بداية صيف 1965، وبعد أن تقدمت لامتحانات الشهادة الإعدادية، توجهت إلى لبنان كباحث عن عمل، وليس كلاجىء، كما هو وضع غالبية السوريين المقيمين في لبنان هذه الأيام.
كنت قد وصلت، في نهاية عام 1964، كطالب من دمشق إلى حمص، بعد أن تم نقل عمل والدي، الشرطي، إلى مدينة حمص، وفيها عرفت إمكانية العمل صيفا في لبنان، من قبل الطلاب الريفيين، الذين هجروا أريافهم مع أهاليهم بحثا عن شروط أفضل للعيش في مدينة ابن الوليد، يدفعهم إلى ذلك، شظف العيش، وأحلام السلطة التي بدأت تداعب مخيلة بعضهم، بعد أن استولى "عسكر البعث" على السلطة السياسية في سوريا، وبدأ الزحف الريفي إلى المدن السورية.
في ذلك الزمن، كان قسم كبير من زملاء الصف، مثلي، من أبناء الريف، الذين وجدوا أماكن لهم في المدارس الإعدادية والثانوية في هوامش المدن، حيث يقطنون، من هؤلاء الريفيين سمعت قصص العمل في حقول ومطاعم لبنان، وعن صبايا لبنان، في فترة الصيف، حيث يمكن للمراهق، ابن الخامسة عشر، الذي كنته، أن يعود وفي جيبه أكثر من مائتي ليرة سورية بعد شهرين من العمل.
في "الأوتومتريس"، كما كانت تسمى عربات القطار الصغير، الذي كان ينطلق يوميا من حلب وصولا إلى بيروت، جلست بجانب شاب حمصي، عرفت أثناء الحديث، أنه طالب جامعي في الجامعة الأمريكية في بيروت، سألني لماذا أنا ذاهب إلى بيروت، فأخبرته بهدفي، وهو البحث عن عمل صيفي، فكان مما قاله، وهو سبب كتابة هدا المقال: كل الناس، مهما كان "مستواها" تستطيع أن تعيش وتعمل في بيروت!
كم كان محقا ذلك الحمصي، ابن الجامعة الأمريكية، فقد كان لبنان مركّبا كي يكون "سويسرا الشرق" ومفتاحه السحري للبناء والهدم.
فبين عامي 1965 و2016، تغير وجه لبنان عدة مرات بفعل الهجرات إليه ومنه؛ في عام 1969 تم، بموجب اتفاق القاهرة، تنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان.
وفي عام 1976، تم احتلال لبنان من قبل سوريا، تحت راية الجامعة العربية واسم "قوات الردع العربية".
وفي 2005 خرج الجيش السوري بقرار دولي بعد اغتيال رفيق الحريري، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أُخرجت من لبنان عام 1982.
بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 عاد لبنان ليكون مُحتلا من قبل سوريا، ولكن هذه المرة، ليس من قبل الجيش، وإنما من قبل اللاجئين الذين تركوا بيوتهم التي هدمها جيش الأسد فوق رؤوسهم، أو الذين تم طردهم من مدنهم وقرارهم.
ويعود السؤال عن ما حقيقة ما قاله ذلك الحمصي قبل 46 عاما، "كل الناس، مهما كان مستواها تستطيع أن تعيش وتعمل في بيروت"!
هل مستوى الكثير من السوريين العيش في مخيمات لا تتوفر فيها الحد الأدنى لعيش البشر؟
هل مستوى السوريات العمل في "عصابات" مخصصة للدعارة؟
هل مستوى الأطفال السوريين هجر مدارسهم والعمل في التسول في شوارع لبنان لتحصيل لقمة العيش لهم ولأهلهم؟
هل العمل المتاح للسوريين هو بيع أعضائهم للمرضى الميسوريين؟
العام الماضي، جاءت صديقة لبنانية، من بيروت، في زيارة إلى مونتريال، ومما قالته لي: أحد الأيام كنت أتجول في مركز تجاري ضخم، عندما مررت بقرب سوريات يتسوقن جزادين نسائية، توقفت، من باب الفضول، لأرى انعكاس الحرب في بلدهن عليهن، بعد أخذ ورد بين السيدات، اختارت إحداهن جزدانا بقيمة ثلاثة آلاف دولار، دفعت ثمنه نقدا. اثناء خروجي من المركز التجاري كانت فتاة سورية عمرها أقل من عشر سنوات تقف على الباب مادة يدها الصغيرة مستعطفة المارة ثمن رغيف خبز.
أضافت صديقتي اللبنانية: طبعا هناك عشرات المراتب من السوريين الموجدين بصفة لاجئين في لبنان، ما بين صاحبة الجزدان والطفلة التي تشحد لقمة الخبز.
في اسطنبول، ترى السوري في كل مكان؛ في باص النقل الداخلي، وفي المترو، وفي المطار، كما تراه في الشوارع والمقاهي والجوامع، وفي الساحات العامة على شكل سائح، كما أنا وصديقي القادم من مونتريال، ومقيم وعامل مقهى وصاحب مطعم صغير ودلال عقارات وصحفي أو ناشط إعلامي، كما تراه كشحاد، الذين قد يفوق عددهم في شوارع اسطنبول عدد الثوار المعتصمين في أحد الأماكن لدعم صمود حلب أو حمص أو داريا أو غيرها من المناطق التي يحاصرها نظام الأسد وعصابات حزب الله والمليشيات الإيرانية، أو يدمرها الطيران الروسي.
أحد السوريين يقيم مرغما في مطارات أمريكا الوسطى منذ سنة تقريبا، يتم ترحيله من هذا البلد إلى ذاك، فيعيده الآخر إلى المطار الذي قدم منه، في آخر اتصال له مع صديق قال له: ارسل لي ثمن بطاقة طيران إلى السودان، فهو البلد الوحيد الذي يقبل السوريين حتى الآن، على "علاتهم" كما قيل لي، لقد كرهت الإقامة الإجبارية أو لنقل: السجن، في صالات الانتظار في مطارات العالم.
في تركيا تسمع من سوريين حديثا يدل على قلقهم، فبعد أن كانوا قد وطدوا النفوس على الاستقرار النهائي، عادت نغمات الرغبة في عبور البحار باتجاه أوروبا تتردد على ألسنة بعضهم، وخاصة بعد الضغوط العالمية على تركيا ورود أفعال القيادة التركية على الابتزاز السياسي الغربي لها، للحصول على تنازلات سياسية، ترى فيها تلك القادة تهديدا لمصالح أمنها القومي، فعاد الحديث عن استخدام الورقة السورية كعامل ضغط تركي على الغرب.
في أوروبا نفسها، تحولت مأساة لجوء السوريين إلى مادة للتجارة بين الأحزاب السياسية الأوروبية المتنافسة، وورقة انتخابية قد تعيد رسم مشهد الحياة السياسية الأوروبية، بناء على ما كان يتناقله المستشرقون من صور عن الشرق الإسلامي ابتداء بقصص ألف ليلة وليلة ومرورا بأساطيرهم عن السلطنة العثمانية وانتهاء بصراع الحضارات.
هل أعاد اللاجىء السوري، الموجود في المدن الأوروبية، بعث أساطير الغرب عن الشرق، بعد أن قيل لنا إن الإنسان الغربي المعاصر تجاوز مرحلة ثقافة الاستشراق، والأحكام المسبقة، ويعيش عصر الحرية وحقوق الإنسان؟؟؟
هل فجّر اللاجىء السوري في الأردن ولبنان ومصر وتركيا، أوهام الوحدة العربية والإخوة القومية والدينية، وأعاد وجوده في هذه البلدان، إحياء مصالح العشيرة والقبيلة والعرق والطائفة وأعطى قيمة للحدود الوهمية التي ينتهكها "العدو" كل يوم، ومهد لسايكس بيكو جديدة؟؟
أخيرا، هل صحيح أن "كل الناس اللاجئة، مهما كان مستواها تستطيع أن تعيش وتعمل في مدن العالم"؟
وهل ستستقر الأرض، يوما، تحت أقدام السوري، خارج وطنه أو في وطن يتم رسمه الآن دون إذنه، ويصبح اسمه "السوري سابقا"؟
*ميخائيل سعد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية