أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

جردة حساب!.. ميخائيل سعد*

أرشيف

بعد مضي خمس سنوات "وحبتين" على الثورة السورية، قررت أن ألتفت حولي لأرى ما هو الشيء الذي بقي في مكانه وماذا استجّد؟

دفعني إلى جردة الحساب هذه ملاحظة كنت قد قرأتها في الجلاء المدرسي لابني عندما كان في المرحلة الابتدائية، تسأل الملاحظة عن مدى اهتمام الطالب بالوسط الذي يعيش فيه، وملاحظته للأشياء المحطية به. يعني ما يشبه بالمصطلحات السورية الحديثة، السؤال عن الحواضن الاجتماعية للنظام الأسدي وللثوار وللدواعش وغيرهم. 

وعلى الرغم من أن هدف السؤال هو سبر إمكانيات الطفل، إلا أنه يحمل، في طياته، الإشارة إلى نوع التربية البيتية التي يتلقاها، والتي قد تكون رائزا من روائز قياس القدرات الإنسانية ومستقبل هذا الطالب.

لا أقصد بالتأكيد الإشارة إلى أن هدف هذه الروائز الكندية هي معرفة قابلية الطالب، ابن اللاجىء السوري، إلى قدرة بيئته الحاضنة على تحويله إلى "عميل للغرب" أو إلى "عميل داعشي"، فالجميع هذه الأيام مشغول بهذه المسألة، حتى أن صحيفة فرنسية شهيرة، خرجت عن "سخريتها الوقورة" بكل شيء، وأشارت إلى الطفل السوري "آلان"، الذي مات غرقا أثناء رحلته الخرافية إلى أوروبا، من شدة حنان الأمواج واحتضانها له، أنه كان مشروع مغتصب للنساء الشقراوت، لو أنه بقي على قيد الحياة. 

من المؤكد أنه لم يكن في نيتي الربط بين هذه الحالات بواسطة "إبرة عقرب"، فأنا من السوريين الذين تربطهم بكندا رابطة "الدين" رغم علمانية الدولة الكندية!، ومن غير المعقول أن أقدم انتمائي "الوطني" على انتمائي "الديني"، أليس هذا ما كان يروج له ويريده مَن هجّر المسيحيين من أوطانهم، بحجة أنهم "غرباء وعملاء" ويجب طردهم، فجاء "حامي الأقليات" ليحميهم من "أنفسهم"، ويحمل راية الدفاع عنهم إلى الغرب "الغشيم" الذي لا يعرف مصالحه!!

في مقابل هذا النوع من السوريين بالإكراه، يوجد نوع آخر منهم، يرى نفسه على الطرف الآخر من النهر الكندي، كنديا بالإكراه، حتى ليخيل للسامع أن السوري جاء إلى الحياة مكرها، رغم أنه دفع "الخمير والفطير" حتى وصل إلى كندا قبل حوالي ربع قرن، وكذب عشرات الكذبات حتى تم قبوله كلاجىء أولا، ثم كمواطن ثانيا، لا يتوانى عن القول في "حواضنه" الاجتماعية: إن من واجبه "نهب" كل ما يصله من هذا "البلد"، وكأننا في "سوق السنة"، وكأنه لم ينهب كل ما كان يصل اليه في وطنه الأصلي، قبل الهجرة أو اللجوء، فجاء إلى هنا ليتعلم فنون النهب!!.

رغم هذه الحقائق "المرة"، فقد كانت الدولة الكندية تنظر إلينا جميعا ككندين من أصل سوري، تختلف النظرة حسب زاوية عين الناظر أو الناظرة، ولكننا نبقى في العين الحور "كدعان".

استجابة لسؤال الرائز في الجلاء المدرسي للمرحلة الابتدائية، التفت حولي لأكتشف موقعي في مونتريال، بعد خمس سنوات من الثورة، وادعاء انشغالي بها، وبعد سنة ونصف من بلوغي سن التقاعد، و27 سنة من الهجرة، فماذا وجدت؟

كنا، قبل الثورة، قد استسلم بعضنا إلى فكرة أننا سوريون في كندا، أو كنديون من أصل سوري.

أما بعضنا الآخر فقد قرر منذ لحظة وصوله، قبل حوالي ربع قرن أو أكثر قيلا، أنه ليس سوريا، مدعيا أنه كان مُجبَرا على حمل تلك "الهوية"؛ التي ربطته بالبداوة والتخلف والعنف، وهو الآن في حلّ منها، وترحال نحو العولمة والحداثة والسلام، ولكنه بقي على صلة مع وطنه الأم لأسباب خاصة قد تكون عائلية أو تجارية أو غير ذلك.

وكانت الصلات بين الجميع هي؛ محلات الأكل العربي، خاصة الحمّص والتبولة، واللغة المحكية، والشتائم منها خاص بشكل، التي أتقنها طلاب المدارس الثانوية الكنديون، وكان بالإمكان سماع مفردات الشائم الجنسية المتعلقة بالأم والأخت والزوجة، بلغة عربية مفرنسة، في أي ثانوية في مونتريال، أو في باصات النقل العامة.

بعد قيام الثورة حدث أنقسام حاد في أوساط من كان متهما بأنه سوري وبين من كان يعتبر نفسه سوريا إلى "الأبد".

حدث الانقسام في كل شيء؛ في الإعلام والمظاهرات وتأسيس الجمعيات وجمع التبرعات والاتهامات بكل أنواعها، ووصل الأمر إلى انشقاق الزوجات عن الأزواج أو العكس، والأبناء وعن أهاليهم.

وبحث كل طرف عن الأسباب التي كان مسكوتا عنها منذ سنوات، وغائبة في تلافيف المخ لتكون، رايته للانفصال عن الطرف الآخر.

وقد نالنا ما نال الآخرين، كنا مجموعة صغيرة من الأصدقاء من جميع الطوائف، نفتخر بعلمانيتنا، وبروابطنا الوطنية المبنية على الاختيار الحر، وعلى عدائنا للاستبداد، وإذ بالأيام المتعاقبة من الموت التراجيدي للسوريين، تؤثر علينا وفينا وتفتتنا، وأذكر أن العام الماضي كان آخر عام لي في النشاط السوري في مونتريال، وكانت نهاية آخر لقاء غير عادية، أوردها لطرافتها، ولما قد تحمله من مداليل لهواة النكش والبحش عن أسرار البشر المودعة في صناديق اللغة. 

العام الماضي كنت برفقة ختيار مثلي في اجتماع مسائي صاخب للمعارضة السورية في مونتريال استمر حتى منتصف الليل، وربما كان يفوق في صخبه ضجيج السلاح في جبهات القتال في سوريا، ولكن دون دماء، ولما كنت "منغمسا" في متعة الصراخ واستعراض العضلات الثقافية والسياسية ما جعلني أنسى، عدة مرات، ضرورة زيارة الحمام، تلك الزيارة الضرورية لختيار مثلي. وما إن وصلت حرارة الحوار "الديمقراطي" إلى ما قبل إشهار السلاح بقليل، غادرنا المكان على عجل أنا وصديقي، وكنت أنا السائق. 

أثناء الطريق، "انحصرت"، ولم يعد يجدي تضييع الوقت في كلام السياسة أو استحضار قصص الغرام من الذاكرة المثقوبة تعويضا عن فقدانها في الحياة، رأيت قطعة أرض خالية من البناء، فتوقفت وغادرت السيارة بسرعة، فقد بدأت النقاط تتسرب، رغم الحراسة المشددة، وتلامس سروالي.

وبينما أنا في عزّ معركة تفريغ حمولتي، توقفت سيارة شرطة وراء سيارتي، مطلقة زمورا قويا، مرافقا لضوء باهر انطلق من عيني السيارة، التفتُ لأرى شرطية شابة تلوح لي من شباك سيارتها الرسمية، تجاهلت الأمر وأنهيت المهمة، ثم توجهت إليها، فسألتني عما أفعله هنا في هذا الوقت من الليل، وقد ظنت أنني "إرهابي"، ربما، من لون بشرتي الأسمر، وسلوكي غير المألوف والمستهجن في المجتمع الكندي، قلت لها الحقيقة، وإنني كدت أن أفعلها في ثيابي.

قالت: أنت ارتكبت مخالفة بقيمة مائة وخمسين دولارا، فما فعلته هو مخالف للقوانين الدولة "المدنية"، من جهة، وفيه تلويث للطبيعة من جهة ثانية. قلت لها من باب "كولكة" العرب وإظهار شطارتهم: سامحيني هذه المرة، وأعدك أنني لن أكررها مرة أخرى، فأسهل عليّ أن أكون "إرهابيا" من دفع هذا المبلغ الضخم، وأقسمت لها أن "حمد" لم يدفع لي أي قرش خلال الأربع سنوات التي مضت رغم أنني لم أقصر في "الكولكة" عليه ومدحه، وكذلك فعل "أردوغان".

ضحكت الشرطية الكندية الشقراء وسامحتني لمرة واحدة لأنني ختيار، متمنية لي العمر المديد في حاضنة صحية مجانية أمضي بها بقية عمري.

*من كتاب "زمان الوصل"
(166)    هل أعجبتك المقالة (179)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي