أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الثورة السورية والوجاهات.. ميخائيل سعد*

أرشيف

كانت انفجارات الشوارع السورية بالبشر التواقين للحرية، في العام الأول للثورة، مسألة مخيفة للعالم ولدول الجوار، لذلك كان لا بدّ من "لملمة" الأمر بسرعة، واذا لم "يتم" ذلك وتعذر فعله، فيجب إبعاد حركة الناس وحرفهم عن الشعارات التي رفعوها في الحرية والكرامة والديمقراطية، وإذا لم يحصل ذلك فإن الجميع "مهدد" بالثورة السورية، في حال استمرارها كما هي، أو في حال انتصارها لاحقا.

كان القرار "الغربي" واضحا، بعد انقشاع ضباب الدهشة لساعات الصباح: الاقتراب "العلني" من حركة الناس، من خلال تقديم التعازي ببعض الشهداء، كا حدث في داريا، عندما زار مجلس عزاء غياث مطر، الذي مات تحت التعذيب، بعض السفراء الغربيين في خطوة هي الأولى من نوعها؛ فقد حضر سفراء كل من أمريكا وفرنسا واليابان وألمانيا والدنمارك، للتعزية وإظهار التضامن مع الأهالي، وسماع ردود الأفعال أيضا.

أما عن ظهور السفير الأمريكي فورد في مظاهرة حماه الكبرى في ساحة العاصي في السابع من تموز 2011، فقد أعلن مسؤول أميركي الهدف منها، عندما قال: "نريد معرفة من هم هؤلاء الناس وإلى أي نوع من العملية السياسية ومستقبل البلاد يتطلعون، ينبغي أن نجري اتصالا معهم وهذا ما سيقوم به السفير "فورد" هناك.

هذا المثالان كافيان للدلالة على حجم القلق الغربي من اتساع المشاركة الشعبية في الثورة والتوق للتغيير والخروج من تحت عباءة الاستبداد الأسدي، المدعوم غربيا، رغم ادعاء العكس.

وهكذا بدأ العمل على مسارين يكملان بعضهما وإن بديا مختلفين؛ أولهما إطلاق الوعود الغربية لدعم الثورة، والعمل الحثيث على عقد مؤتمرات تلهي الناس، وتفتح باب الخلافات بينهم على مسائل نظرية، خارجية (انطاليا مثلا) وداخلية (سميراميس مثلا)، ذلك بهدف كسب الوقت لكي تتبلور "وجاهات" محلية يمكن للغرب، وخاصة للأمريكيين، التعامل معها، تضمن لهم لجم حركة الشارع السوري وتفريغ شعاراته من مضامينها الفعلية.

أما المسار الثاني فقد تكفل به النظام السوري نفسه، فبعد أن تم تحريض الناس طائفيا، قام بإطلاق الإسلاميين المتشددين من سجونه، وهو يقدر سلفا أنهم سيصبحون، في البداية، جزءا من الثورة، ثم سيحاولون صبغها بلونهم، وهذا ما يعمل عليه، ويريده العرب والجوار والغرب أيضا لأنه سيسهل عليهم العثور على الحل النهائي، وهو "الإرهاب". للقضاء على ثورة الحرية والكرامة، وهذا ما نراه الآن. 

ما دفعني إلى كتابة هذه المقدمة الطويلة، قبل الوصول إلى الكلام عن الوجاهات العربية التي خلقها الغرب، بالمعنى السياسي والاجتماعي والثقافي، هي مقاطع منشورة من محاضرة ألقاها نعوم تشومسكي في جامعة بير زيت، في الضفة الغربية عام 1997، عن ما كان يُسمى وقتها بعملية السلام، التي يجب أن تُفهم، على حد تعبيره، كمؤشر قوي على "سلطان القوة في الشؤون الدولية" المستمرة دائما، وخاصة في التعامل مع الثورة السورية. 

ونظرا للتشابه الكبير واستمرار الوضع في الثورة السورية ومعها، كما هو وضع الغرب، مع القضايا العربية الحقيقية، أعيد نشر بعض هذه الآراء، لما فيه من فائدة، أدعي أنها موجودة ومهمة للاطلاع عليها، لمن فاته ذلك.

كتب نعوم تشومسكي عن سياسة أمريكا في الشرق الأوسط: من أجل إحكام سيطرتها على المنطقة، استعارت أمريكا بنية النظام الأساسية التي طورتها بريطانية، خلال عهدها، تحت الشمس.

كان المدراء المحليون مجرد "وجاهة عربية"؛ وجاهة منخرطة في المستعمرات بغطاء من البدع الدستورية والشعارات الرنانة، ولكنها وجاهة محلية غير مستقلة، لذا يجب أن تكون ضعيفة، والأسلوب المفضل في الشرق الأوسط هو الديكتاتوريات العائلية سواء كانت ملكية أو جمهورية. 

ويتابع تشومسكي: "هذه الأنظمة الديكتاتورية كانت تُسامح، بل تُحترم في الحقيقة، مهما بلغت تصرفاتها التعسفية". أليس هذا ما حصل ويحصل حاليا مع نظام الأسد والنظام الإيراني وحزب الله اللبناني في تعاملهم مع الشعب السوري.

إن مهمة الوجاهات السورية الآن، التي تتم "بردغتها" في جنيف وطهران والقاهرة والرياض وأنقرة، وباقي عواصم العالم، هي ضمان تأسيس نظام بديل لنظام الأسد، ولكن شبيها له في الوظائف التي كانت مناطة به.
وليس صحيحا أن العالم منقسم حول بقاء أو رحيل بشار الأسد، فهو ليس أكثر من برغي في آلة مُستهلَكة يجري تجديدها، المهم العثور على برغي آخر يحل محل الأسد.

إن ما يجري في جنيف، من لعب ومماطلة هو محاولة لكسب الوقت لصياغة "وجهاء" جدد يحكمون سوريا ما بعد الأسد.

في مفاوضات الأمريكيين مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، اشترطوا وقف الانتفاضة، التي تعتبرها الولايات المتحدة أعمالا إرهابية ضد اسرائيل، قبل السماح للمنظمة بالتفاوض مع الولايات المتحدة.
أخيرا، تم توكيل دي ميستورا، عالميا، لترويض المتفاوضين والقبول بشروط النـظام العالمي بوقف الثورة، وإلا فإن أعناق جميع السوريين ستخضع عاجلا أم آجلا إلى مقصلة "الإرهاب" التي قد ينصبها بشار الأسد نفسه للمؤيدين قبل المعارضين، بدعم ومساندة من دول العالم.

الحل الوحيد، بالنسبة للشعب السوري، هو العودة إلى رفع شعارات الثورة في الحرية والعدالة والديمقراطية، واعتماد علم الثورة شعارا وممارسة، كما حدث أخيرا في معرة النعمان والسويداء وداريا وغيرها من المناطق السورية الثائرة، فهذا ما يسحب البساط من تحت أقدام الجميع مع عدا أقدام الشعب السوري، ويقوي مواقع المتفاوضين للإسراع بإسقاط نظام الأسد، كخطوة أولى نحو الحرية المنشودة.

*من كتاب "زمان الوصل"
(170)    هل أعجبتك المقالة (158)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي