"رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانه، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهمة صعبة وسهلة في آن واحد.
انظروا الآن إلى هذا النمر: إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير ويصبح وديعاً ومطيعاً كطفل صغير.. فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين من لا يملكه، وتعلموا".
بقية قصة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر" معروفة، فقد تمت عملية ترويض النمر عبر معدته. وهذا بالضبط ما يفعله، هذه الأيام، النظام العالمي الجديد بشعوب العالم، وخاصة تلك التي ما تزال تظن نفسها "حرة" في غابة، كما كان النمر قبل ترويضه.
في الأسابيع الماضية، كثر الضجيج الإعلامي حول "بنما وأوراقها" حتى خلنا أن العالم يعيش في غابة استوائية جميع مَن فيها وما فيها يعيش خارج "الترويض"، أو كأن "العالم" فقد القدرة على السيطرة على مقدرات عيشه لمجرد أن عرفنا ما هو معروف سابقا، وأن المال العالمي يتركز بأيدي لصوص، وهو ما كان قائما فعلا منذ زمن.
وكل ما عرفناه الآن هو أننا رأينا أنفسنا في أقفاص الترويض الكبرى، ورأينا بعض مروضينا يقفون خارج القفص، وبأيديهم أدوات ترويضنا.
أكثر من 11 مليون وثيقة تم "تسريبها"، يقول بعضها إن المتورطين في تهريب أموال شعوبهم هم الأكثر فسادا مثل بوتين الروسي والأسد وابن خاله السوري، وبعض البنوك الصغيرة أو الكبيرة وبعض المسؤولين الأوروبيين، ومجموع هؤلاء ونشاطاتهم قد لا تملأ ألف وثيقة، فماذا في الملايين الباقية من أسرار شركة "أوفشور"، وهل سيسمح للناس بالاطلاع عليها؟
أغلب الظن أن "أوراق بنما" تم تسريبها أو تهريبها عن قصد، ففي ذلك فوائد متعددة؛ أولها، الكشف عن سطوة المال وتمركزه والتحكم به.
ثانيها، ترويض الشعوب عبر التلويح بامتلاك سلاح المال، الذي هو ماء الحياة المعاصرة. ثالثا، دفع الناس للمقارنة بين معدة مليئة دون حرية أو حرية مع معدة خاوية، وهذا تحديدا ما يحدث في الغرب من خلال تبني القوانين التي تقضم الحريات الخاصة والعامة بحجة مكافحة "الإرهاب".
إن تسريب أوراق بنما هو ترويض، على مبدأ المفاوضات خطوة خطوة، كما يحدث الان في جنيف بالنسبة للسوريين، فمع كل جلسة جديدة يتم قضم جزء من أهداف الثورة السورية، وهو تماما يشبه هدف تسريب أوراق بنما.
في حادثة أخرى غير بعيدة الدلالات، كانت تسريبات "ويكيليكس" الشهيرة وكان ما جاء فيها فضيحة كبرى لأخلاقيات هذا العالم، ودليلا دامغا على تراجع أخلاق العالم المعاصر "الحداثي"، في السياسة والحكم والعلاقات الدولية وحقوق البشر التي اكتسبوها بدمائهم خلال مسيرة طويلة من "الأنسنة"، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ بعض المواد في وسائل الإعلام العالمية، وبعض الشماتة في أوساط سياسي "العالم الثالث"، ثم همدت الموجة، وهذا ما يحدث الآن مع أوراق بنما، إنه الترويض على مراحل!
ما أريد الوصول إليه، وربما فيه بعض التجاوز، أن تسريبات "أوفشور"، وقبلها تسريبات "ويكيليكس"، تقول بصراحة "بموت" الأخلاق العامة وقيم التنوير وجميع أنواع الحقوق الإنسانية، وتؤكد أن على البشرية أن تفهم "أننا هكذا"، وأن هذا العالم هو عالم رأس المال المتوحش، ولكن الجميل بتوحشه، وأن لا أحد يستطيع الوقوف في وجه "وحشنا" المفترس، واذا كنتم في شك من أخلاقنا الجديدة فما عليكم إلا النظر إلى مصير الشعب السوري، الذي حاول أن ينتفض على الأخلاق "الأسدية"، التي هي أخلاقنا، وأن كل ما فعلته تلك الثورة هو تعرية مجتمعها وكشف الزيف فيه وزيادة تمزقه، وهو ما أردناه ووصلنا إليه.
على العالم أن يفهم من خلال هذه التسريبات وتلك أن مفاهيم الوطن والوطنية والشرف والأخلاق قد انتهت، وحل مكانها قيم المال والسلطة فقط.
بعد 11 أيلول 2001 كنت في جلسة مع صديق من أصل مغربي، أمضى حياته في النضال من أجل الحرية، قال: من الصعب فهم ما حدث في أمريكا، وكيف استطاع "الإرهابيون" تجاوز كل الحواجز وإدخال تلك الأسلحة، والوصول إلى كل المعلومات التفصيلية الدقيقة عن المطارات وحركة الطائرات ومواعيد هبوطها وإقلاعها، دون الاستعانة بخبرات بشر أمريكيين، يعملون في تلك المواقع، والسؤال هو كيف حصل ذلك؟ كيف تخلى الأمريكي عن مشاعره الوطنية وهو يعلم أن من يأخذها قد يستخدمها ضد بلده وشعبه؟ أين هو إيمانه الديني والوطني وأين أخلاقه؟
تابع صديقي قائلا: إنه المال وعصر المال، والرغبة في الحصول على المتع الفردية، وتقليد أثرياء العالم في بذخهم. أعتقد أن قيم الوطنية قد ماتت تاركة المكان إلى قيم المال وتوابعه.
أخيرا، أعتقد أن شركة "أوفشور" كرمز عن المستفيدين منها، مسؤولة عن حرف الثورة السورية، وربما عن وئدها، ومساندة المستبد، عبر تأمين احتياجات استمراره، وتهجير السوريين إلى بقاع العالم.
فما يهدد هذه الشركة حقيقة هو الخوف من انتشار أخلاق الثورة السورية في الحرية والعدالة والمساواة، فكان لا بد من إزالة هذا الاحتمال وتسهيل الطريق أمام تجارة "الإرهاب"، وسيادة عصر الظلمات بدل عصر الأنوار.
إنها خطوة على طريق ترويض شعوب العالم، وصولا لليوم العاشر، كما قال أستاذنا زكريا تامر، في درسه الذي لا يُنسى.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية