أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هل تعترف بموت الثورة ؟ .. سؤال المليون قتيل*

جميلة من سوريا هربت إلى تركيا خوف الموت والجوع - جيتي

هل هي ثورة تلك الأحداث التي نشهدها في سوريا اليوم، أو لعلها خليط مسخ من ثورة حقيقية شهدتها البلاد في بداية الأحداث وعبرت عنها الحناجر والساحات، أُضيف إليها مشروعان اثنان، الأول مشروع "التطييف" الذي استخدمته الدولة الأمنية الساعية إلى الاحتفاظ بالهيمنة، والتي استطاعت استخدام قسم من المجتمع واخترقت صفوفه بالعملاء والمجموعات التكفيرية لتحقيق هدفها، والثاني مشروع السلطة الإلهية المسخ أيضاً والذي حمل شعار نصرة الدين ودولة الخلافة ومفاهيم السماء المطلقة التي لا تنطبق حتى على الأنبياء، فظهر القتل عارياً وفاضحاً من الطرفين، وكأن هدفهما التسابق في القتل، فيما بقيت قوى الثورة الحقيقية عاجزة عن التعبير عن نفسها، لأن مزاج اللحظة التاريخية منفعل بقضايا الإرهاب وليس بالثورات وقيم الحرية والعدالة. 

هل يجوز طرح جدلية صراع مزاج اللحظة التاريخية مع حقائق التاريخ، لعلها مسألة صعبة لكنها بحاجة إلى تفكيك وقراءة من مستوى "العناية المركزة"، لأن حالة الانفعال تكاد تطيح بالحقيقة التي هي مسعى كلّ الفلسفات، ومصدر قلق فلاسفتها.

لعلي أستعير أفكار عدد من الباحثين والمفكرين المعاصرين لتعزيز بعض الأفكار حول ما تعيشه سوريا اليوم، وهي ليست أفكاراً ناجزة ومطلقة بقدر فهمها الواعي لما يحصل وتمكنها من تقديم لغة منهجية غير منفعلة بالغالب.

انطلاقاً من مقولة أن "التاريخ هو الشعب" وهو ما أتى به المفكر أحمد برقاوي، يمكن طرح فكرة من هو الشعب أساساً، هل هو حالة زمنية أم كميّة أم نوعية، وهل هناك علاقة بالأصل بين فكرة الوطن وفكرة الدين، ومتى تتعارض الفكرتان. 

والفكرة السالفة هدفها التأكيد على أن هناك صراعاً أزلياً بين ما هو حقّ فطري للأفراد والمجتمعات، وبين ما هو مكتسب من قيم دينية وسياسية أنتجت مذاهب وديانات وتيارات سياسية كلها لبست الفلسفة وركبت على الثقافة والفكر ليصل إلى حكم الفرد والمجتمع.

وصولاً إلى تفسير الحالة السورية، يمكن السؤال، هل تمثل القوى القائمة على الأرض في هذه اللحظة مصلحة الأشهر الستة الممتدة بين آذار وحزيران 2011، ومن ثم هل تستطيع القوى الثورية المخلصة لتلك المصلحة المتمثلة بمطالب الحرية والعدالة والكرامة وتداول السلطة، أن تدافع عن تلك القيم ماديا ومعنوياً دون تأثيرات خارجية.

أعود إلى التعريف التقليدي للثورة والذي يتلخص بمفهوم تغيير نظام الحكم بالقوة، عبر الشعب أو عبر انقلاب عسكري يتبنى مصالح الشعب، والهدف هو ضبط التوازن في الطرح، إذ ليس هناك مثال لثورة وردية طهرانية خلال القرون الثلاثة الماضية، فالثورة الفرنسية التي أطاحت بتحالف الملكية مع الكنسية في القرن الثامن عشر ظهرت فيها مشاهد القتل والإعدام، وكذلك ثورات أمريكا اللاتينية في القرن العشرين، وهنا نستطيع فك الالتباس، أو نفي محاولة إلباس الثورة السورية في اندفاعتها الأولى صفة ثورة المندسّين أو الإسلاميين أو العملاء، فالواقع هو أن البلاد كانت تخضع لحكم الديكتاتورية العائلية الشمولية بالاعتماد على مؤسسة أمنية، وباستخدام شخصيات فاسدة من مختلف الطوائف والشرائح، وهو مبرر كاف لقيام ثورة ضد قيم الاستلاب والإلغاء والرعب وتعقيم المجتمع.

وتبين لاحقاً أن السلطة القائمة والممسكة بمفاصل "الدولة" هي سلطة لا أخلاقية، وغارقة في الفساد ما يمنعها من تقبل شعارات الثورة بالنظر إلى معرفة تلك السلطة بأنها ستكون عرضة لخطر الملاحقة والمحاكمة في حال تركت للثورة أن تأخذ مسارها، وهو ما دفع بها لاستغلال مخاوف المنظومة الدولية التي تعيش "بعبع" الإرهاب، والذي كان قد تم إلباسه للإسلام بالاعتماد على وقائع تبدأ بأحداث 11 سبتمبر 2001، وتمتد إلى عشرات عمليات التفجير والقتل باسم الإسلام، ما ساهم ببروز ظاهرة "الإسلاموفوبيا" لدى المجتمعات الغربية، وما سهل أيضاً مهمة حكومات الغرب في الدفاع عن علاقاتها مع ديكتاتوريات تحكم معظم دول الشرق الأوسط، وكذلك شنّ حروب تداخلت فيها مفاهيم الحرب على الإرهاب مع مصالح تلك الدول.

لقد استطاع نظام الحكم الشمولي في سوريا استغلال كل منافذ الخوف والقلق والشيطنة والاستلاب التي أتقنها خلال نصف قرن في تدمير الثورة بشكل ممنهج، وإنتاج أجسام رديئة ومشبوهة تحمل أجندات دينية، كما أسهم ضعف المعارضة السياسية وتفككها وتداخلات القوى الخارجية في ضعضعة البيئة الحاضنة للثورة، ودفع جزء كبير من مناصريها إلى تبني خطاب ديني، تحت تأثير حالة اليأس والإحباط، لكن اللافت أن هناك عصبا محلّيا قوامه مجموعات من الشباب التي تحاول أن تطلّ برأسها من بين النيران وسبطانات الدبابات لتقول إن الحراك الثوري المدني السلمي ممثلا بشعارات الحرية وكرامة الإنسان مازال قادراً على النهوض وأن نواة الثورة مازالت قابلة للإنبات.

ساعدت عوامل كثيرة في إجهاض الثورة كما هو مراد لها أن تكون، وأول هذه العوامل كما يراها المفكر الفيلسوف "برقاوي" تدمير نظام الحكم في سوريا لعوالم "المدينة والمدنية، والعيش المشترك، والحق والقانون الحامي للحق" وصولاً إلى تدميره "عالم القيم المرتبط بالعوالم السابقة". 

وبناء على ما سبق يكون ممكناً تفسير غلبة صورة القتل على صورة الثورة، وهنا يمكن استعادة ما قاله المفكر السوري الطيب تيزيني في ندوة حول "المجتمع، السلطة والدين" في طنجة بالمغرب مطلع تشرين الثاني ـ نوفمبر 2015، إذ حمل سؤالا كبيراً ليضعه أمام المثقف والباحث العربي ـ وهو صاحب الشأن ـ أمام مسؤولياته في الإفصاح بعد البحث والتدقيق بعيداً عن الاستمالات المادية والمعنوية، حيث يسأل "هل هنالك من يقتل شعبه، هل هنالك حالٌ يؤدي إلى تدمير بلد بأيدي أهله"، وهو يقول إن كل حدث يحصل في بلادنا ينتهي بالحرق، وصولا إلى اكتشاف د. تيزيني أن المجتمع العربي ـ السوري، يعيش جدلية الوجود والموت، وأن هذا المجتمع لم يتمكن من الانتقال من البيولوجيا إلى السوسولوجيا، أي من الوحشية إلى الإنسانية فظلّ في حالة "البين ـ بين" وهي الحالة التي يمكن تفسيرها على أساس ما حصل من تدمير لفكرة سوريا المتعددة ـ الواحدة حيث يحتمي المسيحي بخلفيته الاجتماعية المتمثلة بالأغلبية المسلمة، وهو ما عبر عنه "تيزيني"، حيث ضرب مثلاً بفارس الخوري عندما كان رئيساً للبرلمان السوري في عهد الدولة الوطنية، وهو الرجل المسيحي، حيث قال للجنرال "غورو" عندما عبر له عن رغبة مسيحيي فرنسا بحماية مسيحيي سوريا المشرقيين: "أيها الجنرال إنني أحتمي بأهلي مسلمين ومسيحيين وكل الطوائف، وأعلمك أن حمانا يكمن في المسلمين أولا وفي المسيحيين آخراً وفي كل الطوائف الأخرى ما بينهما". 

يمكن تفسير سبب حالة التشظي الحاصلة على أنها نتيجة قيام السلطة بإعادة إنتاج فكرة التعدد تحت الخطر، حيث جرى تخويف الطوائف بعد إيقاظ حالة التمترس النائمة والمريضة، وهي فكرة شيطانية في كنهها، محقة في مظهرها، ولكنها وفي جميع الأحوال وجدت من ضعف الوعي الاجتماعي مناخاً مناسباً للتجييش والسوق في مسارات خارج الحالة الوطنية، وضمن هدف الحكم المتوحش الذي يقبل وجود الأجنبي على الأرض السورية مقاتلاً تحت شعارات مذهبية، ومن ثم الزعم بأن هذا الحكم يمثل حالة وطنية لا دينية في حين أن نواته الأمنية واضحة المعالم، وتخضع لحكم الطائفة مهما كان من يعمل ضمنها.

إذن .. هل انتهت الثورة التي ذهب من أجلها نحو مليون ضحية، أم أن الثورة ليست فعلاً ناجز النهايات، إذ يمكن اعتبارها جزءا من مسار التاريخ الذي هو الشعب حسب الفيلسوف "برقاوي".

أستعير في النهاية "تدوينة" للأستاذ الباحث في علم الاجتماع د. صابر جيدوي، يقول فيها إنه "لا يوجد حتمية في أن تنتج الثورة السورية شيئاً معيناً، هي فقط اعطتنا الشروط أو الأرضية المناسبة التي تسمح بتحقيق الأهداف التي خرج الشعب من أجل تحقيقها".

هل انتهت الثورة ؟. سؤال لا يبدو "خسيساً" بقدر ما هو شجاع، سؤال يحتاج كثيراً من البحث، كما يحتاج وعي الجيل القادم وتفسيرهم للحالة التي يمكن أن يصلوا إليها، لكن هناك حتمية لا بد منها، تقول هذه الحتمية بزوال جميع "النظم" وانهيارها في لحظة يكون هناك من ينخرطون في صناعة شكل جديد للتفكير، ونُظُم الحكم، والقيم، لعل من بين هؤلاء هم الذين مازالوا يحملون روح الثورة وينتظرون رحيل الطائرة الحربية عن سماء بلداتهم وقراهم ليهتفوا "حرية .. حرية".

*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
(175)    هل أعجبتك المقالة (183)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي