ما مرّ شهر ونصف على جريمة قتل 10 عسكريين في ساحة التلّ وسط طرابلس جرّاء انفجار استهدف حافلة كانت تنقلهم من قراهم إلى مواقع خدمتهم، حتى ضرب الإرهاب حافلة ثانية في المدينة نفسها. أدى الانفجار إلى انضمام 4 عسكريين إلى زملائهم في العسكر... والشهادة
طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
انعطف سائق الباص الخاص بنقل العسكريين يميناً بعدما خفّف سرعته لتحويل وجهة سيره. عقارب الساعة كانت تشير إلى دنوّها من الثامنة إلا خمس دقائق من صباح أمس، وخلفه تماماً أفسحت سيارة «هوندا أكورد» المجال قليلاً أمام سيارة «رانج روفر» كانت تحاول تجاوزها مع إطلاق العنان لبوق السيارة. ثوان قليلة قبل أن تهتز الأرض بعنف على وقع انفجار توجهت قوة عصفه نحو مقدمة الباص، ملحقة به وبالسيارات السائرة خلفه والواقفة على جانبي الطريق إصابات مباشرة، والنتيجة كانت سقوط 4 شهداء عسكريين، إضافة إلى 32 جريحاً.
الانفجار الثاني الذي يهز عاصمة الشمال خلال شهر ونصف (بعد انفجار 13 آب 2008 الذي أدى إلى استشهاد 10 عسكريين وخمسة مدنيين) وقع عند مفترق الطريق المؤدي من بولفار فؤاد شهاب إلى مستديرة مستشفى السلام والملعب الأولمبي في محلة البحصاص عند مدخل طرابلس الجنوبي، وقبل الوصول إلى أوتوستراد طرابلس ـــــ بيروت الدولي حيث يوجد حاجز للجيش اللبناني. وقبل أن يسلك سائق الباص الذي يحمل لوحة تسجيل عسكرية ذلك الطريق، كانت العبوة الناسفة بانتظاره، وقد أتى عصفها من ناحية سيارة من طراز رينو 18، مركونة على بعد أقل من 10 أمتار من المفترق لجهة اليمين. وحتى مساء أمس، كانت التحقيقات تتجه إلى ترجيح ألا تكون العبوة مزروعة داخل السيارة المذكورة، بل تحتها أو بجانبها.
قوة الانفجار دفعت بسيارة الرينو إلى أكثر من 12 متراً عن الطريق، باتجاه منطقة بور خالية إلا من الأعشاب البرية، كذلك شوهدت بعض قطع إطارات السيارة موجودة خارج نطاق المربع الذي ضربته القوى الأمنية، ومنعت الاقتراب منه، بعدما أغلقت الأوتوستراد في كلا الاتجاهين، ما أجبر السيارات على سلوك طرق جانبية. وقد أدى ذلك إلى أزمة سير خانقة عند المداخل الجنوبية لطرابلس، وخصوصاً بالنسبة إلى القادمين من بيروت والكورة والبترون وزغرتا والقلمون.
ومع أن الاعتداء الذي حصل أمس قد وقع في منطقة ليست ذات كثافة سكانية، إذ لا وجود لأبنية ولمحالّ تجارية بقربه، إلا أنه أوقع هذا العدد من القتلى والجرحى، نظراً لأن توقيت الانفجار يعتبر بمثابة الذروة بالنسبة إلى ذهاب الموظفين والعمال إلى أشغالهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطلاب الذاهبين إلى مدارسهم وجامعاتهم، عدا عن العسكريين الذين ألحقت العبوة الأضرار الرئيسية بحافلتهم.
وكان الباص، الذي يتسع لـ24 راكباً، قادماً من منطقة أكروم في عكار، وهو معروف بنقله العسكريين من تلك المنطقة، حتى بات يلقب بـ«باص أكروم»، إضافة إلى نقله عسكريين يتجمّعون في مناطق القبيات وحلبا والعبدة إلى مراكز عملهم المتعددة.
ولعل ما أسهم في ضرب الجيش طوقاً أمنياً مشدداً حول مكان الحادث بسرعة، هو وجود حاجز للجيش لا يبعد عنه أكثر من 300 متر، إضافة إلى وجود تجمع للجيش في الملعب الأولمبي المجاور. كذلك سارعت سيارات الإسعاف التابعة للصليب الأحمر إلى نقل القتلى والجرحى إلى المستشفيات المجاورة، وخصوصاً السلام وهيكل والنيني والمنلا والمظلوم والإسلامي، حيث مُنع الإعلاميون من تصويرهم أو أخذ تصريحات منهم.
صاحب سيارة الرينو، ويدعى فواز ص. سلّم نفسه للقوى الأمنية، واقتيد للتحقيق معه حيث أفاد، حسب مصادر أمنية، أنه ركن السيارة في المكان ولا علاقة له بما حصل. وأفادت معلومات لاحقة عن وجود بقايا لدراجة نارية عثر عليها في مسرح الجريمة، وعملت القوى الأمنية على التحقق من احتمال أن تكون الدراجة قد حملت العبوة الناسفة.
في غضون ذلك، أدّى الاعتداء إلى شل حركة الأسواق التجارية في طرابلس عشية الاستعداد لعيد الفطر. وانعكس ذلك تراجعاً في حركة الإقبال والبيع والشراء، وتراجعت حركة السيارات في الشوارع إلى حد بعيد، علماً بأن طرابلس شهدت طوال الأسبوع المنصرم حركة لافتة جعلت المحال التجارية تفتح أبوابها حتى ساعات الفجر الأولى. وكان الأمر قد انعكس تفاؤلاً لدى المواطنين في أن يكون العيد فرصة مناسبة تمهيداً لعودة الحياة الطبيعية إلى عاصمة الشمال رويداً رويداً، بعد الأحداث الأمنية الأخيرة التي انتهت بإقرار المصالحة الطرابلسية مطلع شهر رمضان. إلا أن انفجار أمس أعاد الأمور، على ما يبدو، إلى نقطة الصفر.
فهد يدّعي على من يظهره التحقيق
وادّعى أمس مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد، على كل من يظهرهم التحقيق أنهم أقدموا أمس على وضع عبوة استهدفت باصاً لنقل العسكريين، ما أدى إلى استشهاد أربعة عسكريين ومدني، وجرح وإصابة عدد آخر، وإلى إحداث تخريب في المنشآت العامة والخاصة، سنداً إلى مواد في القانون تصل عقوبتها إلى الإعدام. وأحال الادّعاء إلى قاضي التحقيق العدلي الأول رشيد مزهر الذي باشر تحقيقاته.
التفجير السادس هذا العام
بعد انتهاء معارك مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني و«فتح الإسلام» في أيلول 2007، مثّل اغتيال اللواء فرنسوا الحاج يوم 12/12/2007 الاستهداف المباشر الأول للمؤسسة العسكرية، واستشهد فيه الحاج وأحد مرافقيه. ومنذ بداية العام الجاري، شهدت البلاد 6 تفجيرات (بينها جريمة أمس)، استهدف اثنان منها الجيش اللبناني مباشرة. يوم 8/1/2008، استهدفت عبوة ناسفة دورية للكتيبة الإيرلندية العاملة ضمن قوات الطوارئ الدولية في الجنوب، ليجرح نتيجتها اثنان من أفراد القوة. بعد أسبوع، قتل 3 أشخاص وجرح 29 في الكرنتينا بتفجير سيارة مفخخة خلال مرور سيارة تابعة للسفارة الأميركية. سيارة مفخخة أخرى فُجّرت في منطقة الشيفروليه بعد 10 أيام، وأدت إلى مقتل 5 أشخاص، بينهم رئيس المكتب الفني في فرع المعلومات النقيب وسام عيد ومرافقه، فضلاً عن جرح 42 مدنياً. ويوم 13 آب الماضي، استشهد 10 عسكريين وخمسة مدنيين في انفجار حقيبة مفخخة في ساحة التل في طرابلس، أوقعت 45 جريحاً. ويوم 10/9/2008، اغتيل عضو المكتب السياسي في الحزب الديموقراطي اللبناني الشيخ صالح العريضي في بلدته بيضور، عبر تفجير عبوة ناسفة كانت ملصقة أسفل سيارته. وقد جُرِح معه 7 مواطنين آخرين.
4 شهداء و28 جريحاً
نعى الجيش اللبناني أربعة من أفراده استُشهدوا في انفجار طرابلس أمس. والشهداء هم: المعاون أول فؤاد أحمد قداوح (من مواليد 28/6/1966 القبة ـ طرابلس)، متأهل وله خمسة أولاد. الرقيب أول أنور جاسم الخطيب (من مواليد 28/3/1969 سهلة عكار ــ عكار)، متأهل وله 3 أولاد. الرقيب سامي ديب الجمل (من مواليد 13/7/1970 حي الحارة ــ الهرمل)، متأهل وله ثلاثة أولاد. العريف علي محمد علي (من مواليد 12/10/1981 القبيات ــ عكار)، متأهل من دون أولاد.
إضافة إلى الشهداء العسكريين، نُقِل 26 جريحاً عسكرياً إلى مستشفيات هيكل والنيني والسلام والإسلامي والمظلوم، إضافة إلى جريحين مدنيين. والجرحى العسكريون هم:
في مستشفى السلام: سمير خليفة، فيصل الخطيب، علي بو علي، الياس عبد الله، أحمد بو علي، علي أحمد وخضر خليفة.
في مستشفى هيكل: بول أنطونيوس بطرس، عبد الباسط عبد الله، خليل زين الدين، محمد قرفلي، دنيا دياب، محمود حسون، ومعن عيتاوي.
في مستشفى النيني: جهاد حسن فرحات، خالد الزين، داني إبراهيم، عادل يوسف، خضر إسبر، خضر محمد، أحمد محمد الأدرع، وخالد الفحل.
في مستشفى المظلوم: نبيل خضر وخالد خالد وعلي إسماعيل، إضافة إلى أحمد شهاب في المستشفى الإسلامي.
أما الجريحان المدنيان فهما رنا نحاس في مستشفى السلام والطفل آدم قرفلي (عمره سنتان) في مستشفى هيكل.
وزيادة على الأضرار التي لحقت بالحافلة التي كان يستقلها العدد الأكبر من العسكريين الشهداء والجرحى، تضرر في الانفجار أكثر من عشرة سيارات، إضافة إلى تكسر زجاج نوافذ وواجهات بعض المحال التجارية الموجودة في الشوارع المجاورة لمكان التفجير.
استنكار للجريمة ودعوات إلى مكافحة الإرهاب
لم يحد السياسيون اللبنانيون عن عادتهم بعد كل جريمة تحصل في البلاد، فخرجوا أمس مستنكرين، ليعطي كل منهم تفسيراً سياسياً للجريمة. وقد توافق العدد الأكبر منهم على ما ذكره بيان الجيش من أن الانفجار «استهداف لخطوات التقارب والمصالحة بين أطراف المجتمع الواحد»، فشدد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان على «أن مواجهة الارهاب تكون بتوحيد الصفوف والاسراع في تحقيق المصالحات الوطنية».
أما رئيس مجلس النواب نبيه بري، فرأى أن «الإرهاب يكسب مرة جديدة في الوقت الذي نخسره، محاولاً أن يتطاول على المصالحات والمصافحات والمصارحات وعلى الحوار الوطني وعلى عودة لبنان للعب دوره العربي والدولي». رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، الذي رفض استباق نتائج التحقيق واتهام حركات أصولية بالوقوف خلف التفجير، استبعد وجود رابط بين تفجيري طرابلس ودمشق.
أ
ما رئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود فاتهم جهة واحدة بالوقوف خلف تفجيري طرابلس ودمشق. ورأى لحود أن «من يقفون خلف التفجير واجهوا الجيش في الضنية عام 2001 ثم في مخيّم نهر البارد عام 2007، وهم باتوا يتخذون لأنفسهم في بعض الاماكن اللبنانية مخابئ لهم».
رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي رفض وضع الجريمة في سياق استهداف المصالحات، بل رأى أن الجيش «يتعرض لأعمال ثأرية لما حصل في مخيم نهر البارد»، داعياً الجيش «الى اتخاذ الإجراءات المناسبة لتحصين نفسه بعد تكرار العمليات ضده».
وبدوره، دعا النائب وليد جنبلاط إلى الاستمرار في المصالحات السياسية، مطالباً بتسليح الجيش، لأن «الأمن الوطني فوق كل اعتبار، ولا بد من تعزيز قدرات الجيش الامنية والعسكرية حتى ولو اضطر الامر لشراء السلاح من أي مكان».
رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري رأى أن التفجير «يدل على أن لبنان ما يزال معرّضاً لأخطار من جهات لا تريد لهذا البلد أن يتمكن من إدارة شؤونه بنفسه وأن ينعم بالأمن والاستقرار».
نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري رأى أن «الاعتداء هو محاولة فاشلة للتشكيك في قدرة الجيش على مواجهة الارهاب». ودعا النائب بطرس حرب وزارة الداخلية الى «اتخاذ التدابير التي من شأنها وضع كل مرائب تصليح السيارات تحت المراقبة لأن السيارات المفخخة يجري تحضيرها عموماً في أماكن كهذه».
رئيس الكتلة الشعبية الوزير إيلي سكاف ذكّر بتزامن الجريمة «مع حرمان العسكريين من حق الانتخاب»، وربط بين جريمتي دمشق والبحصاص. الرابط بين الجريمتين رآه أيضاً عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب إسماعيل سكرية، وهو ما فعله الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب الاتحاد.
رئيس التكتل الطرابلسي الوزير محمد الصفدي وضع الجريمة في إطار إبقاء طرابلس «مدينة منكوبة وساحة مفتوحة للصراعات». في المقابل، رأى الوزير سمير الجسر «أن المقصود من الانفجار محاولة إظهار كأن الوضع الأمني لا يزال غير جيد، وهذا صحيح، وأن هذا الانفجار كان يمكن أن يحدث في أي مكان لأنه ليس المقصود الساحة الشمالية». أما النائب محمد كبارة، فرأى أن «الخلاف بين اللبنانيين يشكل غطاءً يساعد الإرهاب».
نائب طرابلس مصباح الأحدب رأى في الجريمة «إثباتاً واضحاً على أن طرابلس ليست كما يدّعي البعض منبعاً للإرهاب بل هي ضحيته». وأشار النائب أسامة سعد إلى أن «التوترات السياسية المستمرة والمتنقلة والاحتقان السياسي تؤدي إلى دخول أجهزة مخابرات معادية إلى لبنان للقيام بأعمال تستهدف الأمن الوطني والاستقرار».
أما رئيس الهيئة التنفيذية لـ«القوات اللبنانية» سمير جعجع فوضع الجريمة في سياق استهداف الجيش منذ حوادث مخيم نهر البارد. ورأى الوزير نسيب لحود في الجريمة محاولة لإظهار الجيش عاجزاًَ عن الإمساك بالأمن. النائب مروان حمادة الذي وضع الجريمة في سياق استهداف الجيش أيضاً، رأى أن «المناخ التصالحي وحده يعيد بناء الدولة». وفيما أعاد وزير الاتصالات جبران باسيل التذكير بمنع العسكريين من التصويت، رأى الأمين العام للجماعة الإسلامية الشيخ فيصل المولوي «أن مرتكبي الجريمة هم عملاء أجهزة مخابرات معادية، ولا يمكن أن تكون لهم علاقة بالاصولية الاسلامية».
واتهم الحزب العربي الديموقراطي «قوى الشر التي تدير يد العمالة والخيانة» بالوقوف خلف التفجير، فيما رأى حزب الاتحاد أن الإرهاب الذي ضرب في دمشق يوم السبت الفائت وفي طرابلس أمس «يتحرك بقيادة مركزية واحدة». أما حزب الوطنيين الأحرار فدعا «إلى تأمين الأعتدة العسكرية المتطورة على اختلافها للقوى الشرعية والى توفير غطاء سياسي جامع لها لتتمكن من القيام بدورها بفرض الأمن ومكافحة الارهاب». وطالب الحزب «هذه القوى بالمزيد من التنسيق والتعاون في ما بينها».
وفيما طالب الوزير السابق وديع الخازن بإعلان حالة طوارئ في الشمال «لاقتلاع شأفة الإرهاب من جذورها»، طالب النائب السابق وجيه البعريني «بيوم حداد وطني استنكاراً للجريمة».
أما النائب السابق طلال المرعبي، فكان مطلبه أمنياً، لناحية «زرع كاميرات مراقبة في المناطق الخطرة». وطالب رئيس المركز الوطني في الشمال كمال الخير مجلس الوزراء «بالانعقاد بشكل طارئ وإعطاء التوجيهات الصارمة لكل الاجهزة الامنية، بقيادة مخابرات الجيش اللبناني، للعمل على استئصال المجموعات البندرية ـــــ الخدامية ورفع الغطاء الامني والسياسي عنها».
وقد استدعت الجريمة استنكاراً عربياً ودولياً واسعاً، وخاصة من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وسوريا وإيران والسعودية والأردن ومصر.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية