لم يحدث أن حصل لي شرف الجلوس مع رجل دين مسيحي رتبته الدينية أعلى من رتبة "خوري" إلى أن أرسل لي مطران حمص للروم الأرثوذكس دعوة لزيارته في مكتبه، وكان عمري آنذاك 38 سنة، كلهم في عين الشيطان الذي كنت أشعر به "يحوس" حولي، فأقوم بطرده "بمذّبة" كلما وسوس لي بالسرقة أو بخيانة زوجتي، وكان سلوكي هذا، فيه من البطولة الشيء الكثير.
ولكي تصدقني، عليك أن تتصور إنسانا يسبح بكامل ثيابه في البحر ويخرج منه دون أن تبتل. والحقيقة أن لا فضل للمطران في انتصاراتي المتكررة على الشيطان، فلوالدي وسلوكه الشريف في "العصور" المتعاقبة ما بين الفلاحة والشرطة وشوفيرية التكسي، وللروايات الرمانسية التي ملأت سماء مراهقتي، الفضل في بقائي واقفا على شواطىء الفضيلة، مقاوما رغباتي القوية في مرافقة الشيطان والغوص في بحار متعه المغرية.
في حياتي الريفية، التي شملت طفولتي ومراهقتي، لم أكن أعرف إلا خوري الضيعة، فهو بالاضافة إلى كونه ابن عم والدي، هو الشخصية الأكثر فرادة وتميزا في القرية؛ فهو الوحيد الذي لا يحرث أرضه، والوحيد الذي يجب تقبيل يده كلما صادفته، سواء في الطريق أو عند أحدهم أو أثناء تناول "قداس الأحد"، وهو من حيث اللباس متفرد؛ بجبّتة السوداء، واللحية الطويلة وشعر الرأس الطويل، المضفور والمجموع تحت قلنسوة خاصة برجال الدين المسيحي الأرثوذكسيين، تقليدا للمسيح، فقبعاتهم تختلف مثلا عن قبعات رجال الدين من المذهب الكاثوليكي قبل أن تصلهم "الحداثة" ويتخلون نهائيا عن وضع القبعات، وحتى عن ثياب الكهنوت.
فقد سمح لهم بابا الفاتيكان بذلك، ربما متأثرا بـ"ليبيرالية" الحياة في روما، مقارنة مع "سلفية" البطريرك المسكوني للأرثوذكس المقيم في دمشق، أو الآخر المقيم في موسكو، حيث الليبرالية الدينية كانت تهمة وشتيمة في العاصمتين الشرقيتين "المناضلتين" الواقفتين في وجه رياح الديمقراطية والتداول السلمي للسطة.
في الموعد الذي حدده لي "رسول" المطران، كنت أقف على باب مكتبه، مرتديا أفضل بدلة أوروبية عندي، كنت قد اشتريها من بيروت الليبرالية، في سفراتي المتعددة، قبل أن تسقط تحت هيمنة الحزب الواحد وسلفيته الممانعة، فأنا أيضا، رغم طهرانيتي، كنت أطمح إلى "شوفة الحال"، وأن ترفع الثياب غالية الثمن، من قيمتي في عيني رجل الدين الكبير المعروف ببخله، فهو الأكبر في حمص، ورعاياه المسيحيون هم الأكثر عددا في سوريا، لذلك كان من مصلحتي الدينية، رغم ادعائي الإلحاد، والدنيوية، أن أترك، في أول زيارة لي إلى المطرانية، انطباعا "ثقيلا بالنقود" عند المطران، فأنا أيضا شخصية "مهمة" في حمص، والأكبر في عالم تجارة الكتاب الحمصي، ولكن ترك نافذة مفتوحة على "الجّنة" لا يضرّ التاجر.
استطعت التمرد وخالفت الوصايا، ولم أقبّل يد المطران، واستمعت بانتباه لعرضه القاضي بمنحي حق توزيع كتاب "تاريخ حمص" لمؤلفه الخوري عيسى أسعد.
وكانت المطراينة قد أعادت طباعته على حسابها، وتريد الآن توزيعه بعد أن بقي سنوات في الأقبية، لأن سيادة المطران كان يريد كامل سعر البيع، دون إعطاء أي حقوق للموزع، إلا بركته، وعندما يئس من بيعه مباشرة طلبني.
وكان شرطه أن يمنحني فقط 35٪ من سعر الغلاف، على أن أحاسبه كل شهر عن المبيعات، حتى لو كان نسخة واحدة. عرفت بالمقارنة، مع هذا السلوك، كم كان تجار الكتاب اللبنانيين من شيعة وسنة ومسيحيين وملحدين متسامحين معي في شروطهم، فقد كانوا يطلبون محاسبتهم على ما أبيعه من مطبوعاتهم كل ستة أشهر.
في اللقاء الأخير بيننا، بقيّتُ البحصة، وسألته: ألا يوجد في هذه المطرانية شخص غيرك يتولى حساب القروش التي جمعتها؟ نظر إليّ عابسا باستغراب، فتجاهلت ذلك وتابعت: يا سيدنا، أنت مطران أكبر مطرانية للأرثوذكس في كل سوريا، ومن المفروض أن تكون اهتماماتك كبيرة، تتعلق مثلا في البحث عن الحلول لمشاكل الطائفة، ولماذا يتسرب الكثير من المؤمنين إلى الطوائف الأخرى، وما هي أنواع الخدمات التي يمكن للمطرانية تقديمها للشباب والشابات كي تجذبهم إلى ممارسة الإيمان كما أشار إلى ذلك السيد المسيح، من خلال المحبة والطاعة الذاتية وليس من خلال الإكراه والتهديد بالحديد والنار وتخويفهم، كما يريد نظام الأسد، وأنت، بشكل غير مباشر، بعلاقاتك بكبار المسؤولين الأمنيين وغيرهم.
أريد أن أعرف ألا توجد هيئة كنسية مؤلفة من المؤمنين يمكن توزيع أعمال المطرانية عليهم حسب اختصاصاتهم، بدل أن تشغل نفسك بكل صغيرة وكبيرة، إن أي محاسب صغير يمكنه أن يقوم بكل شيء له علاقة بالمال الداخل والخارج؟
لم يردّ عليّ، وربما قدّر أني أقل شأنا من أن يضيع وقته الثمين معي، ولكنه ردّ علي والدي عندما زاره وقبّل يده واستعطفه، كي يتكلم مع صديقه رئيس فرع المخابرات العسكرية، الذي اعتقلني، فقال له: لن أتكلم مع أحد، لأنني واثق أن ابنك قد قام بعمل ما ضد الدولة، لذلك تم اعتقاله.
في الواقع اليومي المعاش، أن المطران كان في سلوكه الاستبدادي، وعدم ثقته بالمحيطين به، ورغيته في القبض بيده على كل شيء حتى لو كانت قروشا قليلة، لم يكن يمثل ثقافة مسيحية، بل كان تعبيرا عن ثقافة عامة منتشرة عند كل الطوائف والأديان والأحزاب السياسية، وكان في سلوكه مثل سلوك بقية رؤوساء المؤسسات الحكومية والخاصة الذين لا يثقون إلا بأنفسهم، لا أقل ولا أكثر، وجميعهم كانوا أبناء شرعيين لثقافة الاستبداد التي تتجلى بشكل مباشر وفج في السلطة السياسية.
لم يكن حافظ الأسد ديكتاتورا هبط علينا من السماء، وإنما أصبح ديكتاتورا بالقدر الذي وجده من ترحيب به من قبل الثقافة السائدة التي سمحت له بقضم القوانين التي تحد من سلطته، وعندما لم يكن يجد المناسبة لإلغاء القوانين التي تمنعه من احتكار السلطة، كان يقوم بخلق المناسبات بنفسه، إلى أن وصل إلى مرحلة تحولت فيها واجباته تجاه الشعب إلى منحة منه وعطاء يفيض من بين يده، مستحضرا بذلك الصورة التي تعيد إلى ذهن المواطن فكرة عطاء الآلهة.
إنها نفس صورة المطران الذي يمنح بركاته للمؤمنين ولكنه في الوقت نفسه يحصي عليهم أنفاسهم وقروشهم، ويوحي لهم أن نعمة "مسيحيتهم" ذاتها هي بفضل كرمه وعطائه ومكرماته، تماما كحافظ الأسد، وكأي أمير في داعش أو في جبهة النصرة الذي كان بإشارة من يده يستطيع أن يلغي حياة أحدهم بتهمة "الردة"، ولكن كل منهم في مجاله.
فلا وجود هنا وهناك لقوانين ناظمة للحياة السياسية والاجتماعية والدينية للبشر وإنما تتحول الحياة نفسها إلى مكرمات وأعطيات من المستبد إلى الشعب الخاضع.
إن عدم وجود قوانين واضحة تنظم علاقة طرفي العلاقة ببعضهما، وأين تبدأ وتنتهي صلاحيات كل طرف، هو ما يعطي الحق للمستبد بإضافة طابع الشرعية على سلوكه ابتداء من سلب الناس قروشهم وانتهاء بسلبهم حياتهم، تحت تسميات وحجج متعددة.
إن الثورة قامت لتنهي "مكرمات" الاستبداد وأعطياته، سواء كانت من رجل دين أو رجل دنيا….
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية