يقول موقع "رئاسة الجمهورية" الذي تديره ماكينة الأسد الإعلامية إن سحب القوات الروسية "تمّ بالتنسيق الكامل بين الجانبين السوري والروسي، وهو خطوة تمّت دراستها بعناية ودقّة منذ فترة"، واستخدمت وكالة "سانا" الرسمية للأنباء عبارة "اتفق الجانبان" في خبرها عن الانسحاب.
وأطرف التصريحات تلك التي نقلتها "بي بي سي" عن موقع الرئاسة ذاته بأن الأسد "وافق" على قرار بوتين خلال الاتصال بينهما، وللأمانة فقد عدت لموقع الرئاسة على "فيسبوك" فلم أجد العبارة، وافترضتُ أنهم قاموا برفعها منعاً للحرج أمام بوتين شخصياً.
كذب موقع الرئاسة وكذبت "سانا" وصدقت بثينة شعبان التي قالت لقناة "روسيا اليوم" إن القرار الروسي "مبشّر ويدعو إلى التفاؤل"، وأكثر ما يشير إلى صدقية "بثينة" هو منع فيصل مقداد من التصريح بأي موقف بشأن القرار الروسي خلال زيارته "الطيّارة" إلى طهران في محاولة "تجليس" الأسد وحاشيته المرعوبة من طبيعة القرار رغم عدم وضوح أبعاده النهائية حتى اللحظة.
الروس وبلغتهم الجافة وعلى لسان أرفع دبلوماسييهم قالوا إن الرئيس بوتين اتخذ القرار منفرداً وأبلغ الأسد به في اتصال هاتفي، وزادوا على ذلك بأن امتدحوا شركاءهم الأميركيين، وكذلك أثنوا على الدور السعودي في تشكيل هيئة التفاوض المنبثقة عن مؤتمر الرياض، وهذا بمجمله ليس تأكيداً على دعم الأسد هذا إذا لم يكن في حقيقته ضغطاً قد يتصاعد خلال الأسابيع القادمة.
لا حقائق مطلقة في تحليل قرار بوتين سحب قواته "الرئيسية" من سوريا، ما يعني أنه قرار ذو طبيعة خاصة تم اتخاذه بناء على معلومات استخباراتية وقراءة لما ستكون عليه الظروف في المرحلة المقبلة.
بحساب بسيط وجدت موسكو نفسها وقد خسرت العلاقات مع تركيا، وأنها تصب القمح في طاحونة إيران التي تبدو أقرب ما يكون إلى واشنطن والخصم الأوروبي، ولم يبق من المكاسب سوى ملفات وأخبار عن جرائم حرب ارتكبتها القوات الروسية بأمر من بوتين، ليبدو الأخير وكأنه مكلف بالحفاظ على الأسد الذي لا تساوي قيمته الفعلية تكلفة مكالمة بالهاتف المحمول بين موسكو ودمشق.
الروس دفعوا في سوريا نحو مليار دولار في مئة يوم، وهذا ليس مهماً بالنسبة لما يمكن أن يضطروا لدفعه إذا قرر الغرب تركهم يذخّرون الطائرات كل صباح وإلى ما لا نهاية دون زيادة في حجم المكاسب المتحققة ببناء قاعدة جوية في "حميميم" تضاف إلى قاعدة طرطوس البحرية، وفي حال فشلت مفاوضات جنيف وانتهت الهدنة فالبديل هو حرب أوسع تتطلب انخراطاً كبيراً قد يكلف الروس المنهكين اقتصادياً أضعاف ما دفعوه خلال فترة قصيرة.
سيقول الروس إنهم لا يهدفون من الخطوة للضغط على الأسد لكنه سيكون فعلياً تحت الضغط، وسيكون مستفزّاً، وإذا تصرف النظام بعصابيّته المعهودة وحاول الرجوع إلى إيران معتقداً قدرتها على تعديل الموقف، فإن الروس قادرون على الضغط على الزناد السياسي عبر رفع الـ "فيتو" على قرار واحد يضع الأسد والجماعات "الإرهابية" معاً تحت الفصل السابع، وهنا ستكون قوات التحالف "الإسلامي" حاضرة للدخول، وهذه المرة ليس من أجل داعش فقط، بل وقبلها سيكون الأسد هدف هذه القوات التي يمكن تغطيتها بدفاعات جوية روسية إذا ما فكرت إيران أو قوات الأسد استخدام طائراتها.
لا يفيد الروس سيطرتهم على الساحل السوري في محيط معادٍ لهم إذا كان الهدف اقتصادياً، وإذا كان عسكرياً فمن الأولى أن تتمكن طائراتهم من الإقلاع من اللاذقية وصولاً إلى "البصرة" في العراق، وهذا ليس قابلاً للتحقيق طالما أن حصانهم هو الأسد.
المؤكد هو أن الأسد لم يكن سعيداً عشية تلقيه هاتف بوتين، وأن طهران غير قادرة على إسناده في مواجهة الروس.
لن يدفع بوتين أكثر في حماية رأس الأسد لأن أحداً لم يعد راغباً في شراء تلك الرأس لأن بقاءها بات عبئاً على داعميه، وواشنطن التي أرادت تثبيت اللحظة مع الروس بالهدنة لمدة 18 شهراً حتى قدوم إدارة البيت الأبيض الجديدة ربما فاجأها قرار بوتين أكثر مما فاجأ متعهدي الخدمات "الجنسية" لجنود وحامية مطار "حميميم".. فماذا عن الأسد الذي تكرّم و"وافق" على القرار؟!.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية