أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

صورة الرئيس!*

أرشيف

عندما رأيت البارحة صور بشار الأسد وحافظ الأسد وشعارات البعث مرمية، وهي بحالة جيدة، في حاوية للزبالة، تذكرت المرحوم أبي ومحاولته حمايتي بصورة حافظ، رغم أنني كنت وقتها في السجن.

أن يلقي الناس في سوريا بصور "الرئيس" في حاويات الزبالة، دون تحطيمها فهذا يعني أن من رماها ليس بينه وبين صاحبها عداوة، ويدل أنه على الأغلب من المؤيدين أو الرماديين، وفي كل الأحوال هو مقياس هام، سواء كان الفعل في المناطق المحررة أو في مناطق هيمنة النظام، على أن سيادة القمع والخوف من المخابرات قد سقطت، وعلى أن الثورة، وهي في عامها الخامس مستمرة في التوسع والتقدم والحفر عميقا في عقول الناس.

ولا أبالغ إذا قلت إن مدلولات رمي صور آل الأسد في سلة الزبالة، قد تكون أهم من صور المظاهرات التي عمت سوريا في يوم الجمعة الرابع من آذار. 

عندما خرجت من السجن، بعد مضي سبعة أشهر، عدت إلى مكتبتي في حمص، وما إن دخلت حتى صدمتني صورة كبيرة لحافظ الأسد موضوعة داخل إطار خشبي، ومعلقة فوق المكتب.

توجهت بنظري إلى والدي العجوز، الذي تولى شؤون المكتبة أثناء غيابي، سائلا بلهجة استنكارية: ما هذا؟ 
جعل السؤال والدي في موقع محرج، وكان لا يبادل فرحته بخروجي من السجن سليما بمال الدنيا، فقال موجها نظره إليّ: أردت أن أحميك من خلال تعليق هذه الصورة في المكتبة.

وجدت أن أسهل طريقة للقول إننا مع سيادة الرئيس هي في تعليق صورته ليراها الداخل والخارج، وبعضهم يكتب تقاريره للمخابرات، وظننت أن هذه التقارير قد تخفف عنك الأذى، ثم أننا بذلك نشبه كل الناس يا ولدي، انظر في المحلات التي حولنا، أو في المدينة، فكلها تعرض صورة سيادة الرئيس، فلماذا لا نكون مثلهم؟!

لم أكن شجاعا لدرجة تناول الصورة وتحطيمها فورا، بل بالعكس، خرجت من السجن أكثر خوفا بعد ما رأيت كل ذلك الجنون و"الخرافات" هناك، وحجم الظلم الذي لا يمكن تفسيره، ولم أصدق أصلا أنني أصبحت حرا، فأوقعني تصرف أبي في ورطة، كنت في غنى عنها؛ كان ترك الصورة معلقة، دليلا فاقعا على استسلامي وانتهازيتي، أو رفعها وتحمل ما قد يترتب على ذلك الفعل من نتائج، وخاصة من الانتهازيين وكتبة التقارير وموظفي التموين، وجميعهم يبحثون عن ثغرة للرشوة! بعد صراع داخلي بيني وبين نفسي قررت رفعت الصورة، مهما كانت النتائج، ثم بدأت في البحث عن مبررات معقولة لأقولها لعناصر الأمن عندما سيحضرون لمعرفة سبب الاستهانة بـ"رمز الوطن وقائده"، وهي تهمة بحد ذاتها تؤدي إلى الموت.

في ذلك الوقت جاء لزيارتي في المكتبة أحد البعثيين المهمين في المدينة، وكان يتعاطف معي لأسباب "دينية"، فاستشرته في أمر الصورة، قال: ابحث عن صورة لفتاة جميلة شبه عارية وضعها مكان صورة "المعلم"، وهكذا عندما يدخل المخبر أو رجل الأمن ستشغله الصورة وينساق وراء هواجسه الجنسية وينسى ما ألمّ بصورة الرئيس، أما إذا كان الداخل من أصحاب الرؤوس اليابسة، فما عليك إلا باستخدام رنين المعدن الذهبي، فأمام المال يضعف من لم تضعفه المرأة.

رفعت الصورة عن الجدار، ولم أعمل بنصيحة البعثي الطائفي، ولكن لم أعرف نتيجة ذلك، فقد علم الأمن العسكري أنني أصبحت في كندا، فأرسلوا دورية لتستقر في الحي، أمام باب البناية التي كنت أسكنها.

قبل يومين اتصلت سيدة حمصية بزوجتي، فهي صديقتها منذ أيام حمص، لتخبرها أن النظام اعتقل اولاد خالها الثلاثة في أحد أحياء حمص، علما أنهم من المؤيدين المتحمسين لبشار الأسد، قالت: إن كل ما نُقل عن لسانهم إنهم ضد السجن والقتل المجاني للناس قبل التأكد من كونهم من داعش أو النصرة.

ثم قالت المرأة التي لا تعرف ما هي السياسة: شو بدو بشار، ليس هيك عم يشوه صورتو عند الناس اللي كانو بيحبوه؟

أذكر أيضا صورة ذلك الشاب الذي اعتلى اللوحة الكبيرة التي كانت مرفوعة أمام نادي ضباط حمص وقام بتكسير صورة الأسد بقدميه، هذا التصرف الذي كان ثمنه حياة الإنسان لم يمنع ذلك الحمصي من المساهمة في ثورته، وهو نفسه ما دفع ببعض الشباب السوري في الرابع من آذار للخروج في المظاهرات من الجوامع التي تسيطر عليها داعش والنصرة لتأييدهم ثورة الحرية والكرامة ولرفع علمها، رغم ما يعرفونه عن سطوة وقسوة التنظيمين الدينيين، والتي تجلت في اليوم التالي من خلال اعتقال بعض النشطاء وتمزيق علم الثورة ودعسه بالاقدام.

إنها صور الاستبداد، تتساقط الواحدة وراء الأخرى، سواء كانت أسدية أو داعشية أو نصراوية، أو غير ذلك، إنها الثورة السورية التي تنتصر في قلوب الناس أولا وفي عقولهم، ثم في تهديم كل القوالب الفكرية التي كانت تشلّ قدرات السوري وتحد من عبقريته وتطوره.

إنها الثورة التي بدأت في تمزيق صور آل الأسد وتحطيم تماثيل الطاغية، وستنتهي بإسقاط نظامهم.
إنها عودة الدين للناس والسياسة للناس.

*ميخائيل سعد - من كتاب "زمان الوصل"
(198)    هل أعجبتك المقالة (194)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي