أتاحت لي الظروف زيارة العاصمة الألمانية برلين لعدة أيام مع بعض الأصدقاء، كانت مناسبة لي أنا السوري المنفي عند حدود أوروبا الغربية حيث لا يعيش سوى بعض قليل من السوريين في محيطي وأكاد لا أرى أو أقابل منهم سوى شخص وعائلته وبضعة أشخاص منفردين بطريق المصادفة.
رغم ضيق الوقت استطعت زيارة شارع العرب، وكانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لي حيث كنت أسير وإلى يميني ويساري وجوه أكاد أعرفها رغم أن الأمر غير ذلك، سمعت في ساعة واحدة اللهجة الحلبية ولهجة ريف دمشق وحوران والرقة وإدلب ودير الزور والسويداء، رأيت الكورد والعرب والمحجبات بسراويل الجينز الضيقة وحتى المجلببات اللواتي عرفت أنهن تركيّات ولسن بسوريات.
في ألمانيا العربية السورية روى لي بعض الأصدقاء قصصاً لطيفة وأخرى مخجلة، كيف لا، وقد وصل عددنا هناك إلى نحو مليون لاجئ أو ربما يزيد بمئتي ألف، لكن أغرب ما سمعت ولم أستطع توثيقه رغم بعض التأكيدات هو أن ستة آلاف حالة طلاق تم تسجيلها بين السوريين خلال نحو عام، قال لي أحدهم إنها حالة طبيعية في الوسط الأوروبي حيث بات الشركاء يتجنبون عقود الزواج لكي لا يتكلفوا بدفع ضريبة الطلاق المادية، وهم ينجبون الأطفال بدون زواج شرعي أو قانوني لتسهيل الفكاك وتبديل "المخدّة" حسب ما يقول الشوام في اللهجة الدارجة، وقد لا يكون غريبا أيضا وقوع مثل هذه الحالات بين السوريين حتى في سوريا، لكنها نسبة مرتفعة وعلى اعتبار أن معدل عدد أفراد الأسرة السورية هو 5 أشخاص فهذا يعني أن نحو 30 ألف شخص سوري مقيم في ألمانيا سيعانون تبعات هذه التجربة بين أطفال وأزواج.
يقول البعض إنهم شهدوا حالات تمرّد للنساء السوريات على أزواجهنّ، وهذا أيضا طبيعي حسب تقدير صديق يعمل في الحقل الاجتماعي، إذ إن المرأة السورية والعربية بالمجمل تتحمل الكثير من ضغوط الرجل الذي يستعين بالبيئة الاجتماعية وعندما تتاح لها فرصة العيش في أوروبا فإنها "تتفرس" على زوجها في بعض الحالات، وتحاول أن تستثمر شعورها بدعم القوانين عبر إيحاءات وإيماءات للزوج بأنها قادرة على الاستغناء عنه.
في شارع العرب في برلين عالم مصغر لبيئتنا، يمكنك أن تأكل "الفتة" و"الفلافل" كما لو أنك تعيش في الميدان، وليس ثمة بضاعة إلا وتجدها في المتاجر من "المتة" إلى "المكدوس"، ويمكنك أن تسمع صراخ السوريين وهم يتحدثون على الهواتف النقالة، غير أن الموجودين جميعهم ينتمون إلى جيل ما دون الخمسين.
كثيرون لازالوا يعيشون بالمعونة المالية لمؤسسة "جوب سنتر" والتي يسمونها "أبو جابر" خجلاً من كونهم عالة على المجتمع الألماني، وكثيرون لم تتح لهم فرصة تعلم اللغة، إلا أن الأطفال هم المستفيد الأول، والعنصر الأنشط والأكثر حيوية حيث يندمجون ويتحدثون الألمانية بطلاقة، وأكثر ما يقلق آباءهم أنهم لن يستطيعوا السيطرة عليهم بعد سنوات نتيجة انخراطهم بالمجتمع الجديد وتهديدهم ـ في بعض الحالات ـ للأهل بالشرطة إذا تعرضوا لأي تعنيف جسدي أو لفظي.
لم أستطيع تكوين موقف مما يجري ولا أملك توقعات حول ما ستصل إليه أحوالنا نحن السوريين في المهاجر، إلا أنني على يقين بأن الأطفال دون الثامنة عشرة فقط هم من سيتخلصون من عقد الإحساس بالاغتراب الروحي والمادي، أما الباقون فهم مجرد حوامل اجتماعية مؤقتة للجيل الجديد، بعضهم سيعود إلى البلاد والبعض الآخر قد يخضع لشروط الحياة الجديدة ويحاول التأقلم وفعل شيء مفيد يضمن له استمرار العيش في بيئة طاحنة يعمل فيها معظم الأوروبيين طوال النهار لتأمين حدود دنيا للعيش ولا يرتاحون إلا عند وصولهم سنّ التقاعد.
في ألمانيا وربما يكون الأمر كذلك في السويد وبعض الدول الغربية تتشكل بيئات جديدة مصغرة قوامها سوريون ممزقون يحاولون تجميع أشلائهم، منهم الإيجابيون ومنهم السلبيون بطبيعة الحال، وربما سيتضاعف عدد السوريين المهاجرين خلال العامين أو الثلاثة أعوام القادمة مع استمرار المأساة ومحاولات لمّ شمل الأسر المشتتة.
ليس صحيحاً أن هؤلاء السوريين يهددون أمن ومستقبل أوروبا، فهم بيئة بشرية صالحة للاستثمار، أطفالهم سيبرعون ويتعلمون ويساهمون في بناء مجتمعاتهم الجديدة، وسيكون هؤلاء الأطفال، وهم الغالبية، عامل تعويض عن ما تقدمه حكومات الغرب من معونات اجتماعية.
في ألمانيا وحدها يعيش نحو عشرة ملايين مهاجر تركي، وهؤلاء لم يكونوا خلال السنوات الأخيرة مادة للجدل السياسي، هم جزء من نهضة ألمانيا، وسيكون الأمر كذلك بالنسبة للسوريين حتى ولو وصل عددهم إلى أربعة ملايين.
أما موضوع النساء والطلاق والمشاكل الأسرية فالأمر مفهوم بالقياس إلى مستوى الصدمة الاجتماعية لأشخاص ينتقلون من مجتمعات مقيدة إلى أخرى منفتحة، وعلى من يريد أن يركب البحر إلى الضفة الأوروبية أن لا يخشى الغرق في تحدياتها، فالحريات الاجتماعية كما هي حقّ أصيل للمرأة والرجل هي أيضاً بيئة اختبار لهما، ولن يكون غريباً أن يسقط كثيرون في هذا الاختبار .. وعلى رأي الفرنسيين "إنها الحياة".
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية