يبدو أن هناك جوقة واحدة واحدة تعزف نغمة واحدة بأمر من مايسترو واحد في موسكو.. لعل هذا هو الانطباع الأولي والأكثر شفافية، الذي يرشح من متابعة مواقف موسكو وإعلامه من بشار الأسد وما يطلقه من تصريحات متوالية.
بدأت "المعزوفة" الروسية الجديدة، مع تصريح من مسؤول رفيع جدا في منظومة الحكم الروسي، وهو "فيتالي تشوركين" المندوب الدائم في الأمم المتحدة، وصاحب اليد التي ارتفعت مرارا بحق "النقض" لتعرقل مشروعات قرارات تحوي الحد الأدنى من إدانة بشار الأسد.
قال "تشوركين"، قبل 3 أيام إن ما يدلي به بشار من تصريحات لا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، وأن ما ينبغي التركيز عليه هو ما سيقوم به بشار في نهاية المطاف، وبدت هذه اللهجة من السفير الروسي محملة بقدر غير قليل من الإهانة لمقام "رئيس دولة" يفترض أنها حليف لبلده.
وحتى يكون تصريح "تشوركين" ومراده أوضح، فقد أضاف عليه قائلا إن السلطات السورية ينبغي أن تحذو حذو روسيا بغض النظر عن التصنيفات السياسية الداخلية وخط الدعاية السياسية، في إشارة واضحة إلى الشعارات التي يطلقها بشار للاستهلاك المحلي، وها هنا إهانة جديدة لبشار، مفادها أن ما ينطق به يندرج ضمن الدعاية أكثر من كونه مبادئ وثوابت كما يحب تسميتها.
وذهب "تشوركين" أبعد في إذلال بشار، وإظهاره كزعيم نظام بلا كرامة، أو بكرامة منقوصة، عندما قال إن اتباع دمشق لخطوات موسكو والالتزام بخطها يمثل فرصة للسلطات السورية "للخروج من الأزمة بكرامة، لكن إذا ما ابتعدت عن هذا الطريق على نحو ما فسيكون الوضع صعبا للغاية وبالنسبة لهم أيضا".
ويعرف الجميع أن المقصود بـ"السلطات السورية" هنا هو بشار الأسد ذاته، ففي سوريا لا نظام بلا رئيس، ولا رئيس إلا بشار، وكل المسؤولين خلفه مجرد أرقام.
وزاد من وطأة تصريحات "تشوركين" إقرار الكرملين على لسان "ديمتري بيسكوف" المتحدث الشخصي باسم "بوتين" أن ما قاله "تشوركين" يمثل القيادة الروسية، مذكرا الجميع بأن الرجل يشغل منصب المندوب الرؤوسي الدائم لدى الأمم المتحدة.
لم تكد "معزوفة" موسكو الجديدة تصل إلى آذان بشار، حتى اختارت صحيفة "كوميرسانت" الروسية واسعة الانتشار أن تتبعها بتحليل استعانت فيه بآراء خبراء مختلفين أعطوا وجهات نظرهم حول تصريحات بشار الأسد، وقد تولت "زمان الوصل" ترجمة التحليل سابقا.
"كوميرسانت" التي تعد صحيفة الكرملين المقربة، هي نفسها التي نشرت تصريحات "تشوركين" المهينة لبشار، ولا شك أن الصحيفة لم تختر عبثا إتباع تلك التصريحات بتحليل يستطلع آراء الخبراء، ويخلص إلى تشبيه بشار بـ"الذيل" الذي يحاول أن يهز "الكلب" بأكمله، موجهة إهانة أشد وضوحا لبشار.
ووفقا للأعراف التي تسير عليها الصحافة في عهد بوتين، فقد تمادت "كوميرسانت" في انتقاد تصريحات بشار –بوصفة زعيم دولة حليفة-، مركزة على ادعائه بأنه ما من أحد يستطيع فرض توسية سليمة في سوريا، وأنه ماض في القتال.
وخلص تقرير "كوميرسانت" إلى نتائج متعددة، كلها صبت في قناة إلقاء اللوم على بشار، بوصفه يضع روسيا في موقف محرج ويظهرها بمظهر العاجز عن ضبطه وإلزامه بما التزمت به –أي موسكو- في محادثات جنيف الأخيرة بخصوص التهدئة.
كما انتقدت الصحيفة على لسان الخبراء، تصريحات بشار التي تصب الزيت على نار علاقات روسيا المتوترة مع العرب والغرب، لتخلص إلى النيل من بشار شخصيا، بتشبيهه بالذيل الذي يعتقد أن بإمكانه تحريك الكلب والتحكم به (بينما الواقع يقول إن الكلب هو من يتحكم بذيله).
وبعد "كوميرسانت" الموجهة إلى الداخل الروسي، جاء الدور على الإعلام الروسي الناطق بالعربية، فتولت المهمة "روسيا اليوم"، التي تابعت "العزف" بمقال للصحافي "سلام مسافر" المعروف بتأييده لبشار، جاء تحت عنوان "متى ستقول موسكو: كش"، مرفقا بصورة رقعة شطرنج عليها "ملك" منتصب وآخر واقع على أرض الرقعة.
ومنذ عنوانه حتى نهايته، كتب المقال بلغة فيها قدر كبير من التصريح، مع التذكير بأن "كوميرسانت" ورثت مجد وكالة "تاس" السوفياتية، وأن الصحيفة باتت منبرا يطلق الكرملين منه بعض مواقفه ويبعث منه رسائله، وأن من حللوا تصريحات بشار وانتقدوها بشكل لاذع ليسوا مجرد خبراء عاديين، بل مقربون من الكرملين وعلى تواصل به ودراية بمواقفه.
وخلص "مسافر" في مقالته إلى أن "كوميرسانت " شبه مخولة بالنطق باسم "بوتين"، مضيفا: "ليس صدفة أن كل الأخبار المختلطة برائحة مطبخ الكرملين تفوح من "كوميرسانت" لتتحول بعد هنيهة الى تصريحات رسمية".
وبعد "مسافر" ضرب قائد الأوركسترا الروسية ضربته، بتوجيه رسالة مباشرة إلى بشار الأسد على لسان أحد المسؤولين الروس ذوي الأصول السورية، وهو "زياد سبسبي" نائب رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الفدرالية الروسي.
وجاء مقال "سبسبي" السوري قبل أن يكون روسياً، حاملا قدرا أكبر بكثير من الحدة والإهانة لبشار (الذي هو في النهاية الرئيس الشرعي لكل السوريين ومن بينهم سبسبي حسب نظر موسكو)، فقد حمل المقال عنوان "فذلكة مصطلحات أم مصير شعب؟؟"، وهو عنوان مختصر لكنه مشبع بإيحاءات تحيل إلى تصريحات بشار التي يصفها كثيرون من السوريين بأنها من باب "الفزلكة (عاميا)" و"صف الحكي".. أي الكلام الكثير المنمق الفارغ من المضمون.
واللافت أن مقال "سبسبي" لم ينتظر سوى ساعات قليلة بعد نشر تصريحات أدلى بها بشار لصحيفة "إل بايس" الإسبانية، وقد سئل بشار في تلك المقابلة إن كان مستعدا لاحترام وقف إطلاق النار الذي توافقت عليه موسكو: فأجاب: "بالتأكيد، وقد أعلنّا أننا مستعدون، لكن الأمر لا يتعلق فقط بالإعلان، لأن الطرف الآخر قد يُعلن الأمر نفسه. المسألة تتعلق بما ستفعله على الأرض. وقف إطلاق النار يتعلّق -هذا إذا أردت استعمال عبارة وقف إطلاق النار، وهي ليست الكلمة الصحيحة، لأن وقف إطلاق النار يحدث بين جيشين أو بلدين متحاربين، إذاً لنقل بأنه وقف للعمليات. المسألة تتعلق أولاً بوقف النار، لكن أيضاً بالعوامل الأخرى المكمّلة والأكثر أهمية، مثل منع الإرهابيين من استخدام وقف العمليات من أجل تحسين موقعهم. كما يتعلق بمنع البلدان الأخرى، وخصوصاً تركيا، من إرسال المزيد من الإرهابيين والأسلحة، أو أي نوع من الدعم اللوجستي لأولئك الإرهابيين.. إذا لم نوفّر جميع هذه المتطلبات لوقف إطلاق النار، فإن ذلك سيُحدث أثراً عكسياً وسيؤدي إلى المزيد من الفوضى في سورية.. ولهذا السبب، إذا أردنا تطبيق وقف العمليات، فإن ذلك ممكن أن يكون إيجابياً مع توافر العوامل التي ذكرتها".
ويبدو أن ما "تفذلك" به بشار للصحيفة الإسبانية، رفع مستوى الحنق لدى موسكو، فأوحت لـ"سبسبي" من موقعه كسوري أولا وكمسؤول روسي ثانيا، وكحلقة من حلقات الوصل بين دمشق وموسكو ثالثا، ليكتب ما كتب، وسمحت له بنشر ما كتب على صدر صفحات "روسيا اليوم" الناطق العربي الأول باسم الكرميلن.
وقبل أن يدلف إلى انتقاده العلني والصريح لبشار وأركان نظامه، ذكّر "سبسبي" أن موسكو حرصت خلال السنوات الماضية على التواصل مع دمشق "بكل صدق وشفافية لتنسيق المواقف كحلفاء جديين في المنطقة، وإلى فترة قريبة (لاحظوا عبارة "إلى فترة قريبة"!) كانت موسكو تقدم الشكر للقيادة السياسية على حُسن تقديرها وتفهمها للجهود الدبلوماسية الروسية".
وتابع "سبسبي": "وفي ضوء تلك المعطيات توقعت من مستشاري الرئيس السوري بشار الأسد أن يستشيروه بسحب البساط من تحت أقدام الإدارة الأمريكية، ومعها الغرب بتقديم الشكر للولايات المتحدة وحلفائها على دورها الجديد البنّاء الساعي إلى وقف إراقة الدماء على الأراضي السورية، وأن سوريا مستعدة لإنجاح هذا الاتفاق وتنفيذه ولن تترك حجة لأحد في إعاقة الحوار السوري-السوري، وبذلك تعطي للموقف السياسي الروسي مصداقية وقوة وجدية في معركته السياسية والدبلوماسية للخروج بحل سلمي سياسي للأزمة في سوريا وفي معركته ضد الاٍرهاب الدولي التي ستدوم طويلا.
وإذ بجهابذة العصر وعباقرة السياسة والإعلام في مدينة الفيحاء يُبدعوننا (ربما يقصد يتحفوننا) بنظريات سياسية وأفكار جديدة يجب أن تكون أساسا في برامج الجامعات في العالم وخاصة في كليات العلوم السياسية والدبلوماسية والإعلام".
وأشار "سبسبي" بلغة مغرقة في التهكم إلى تصريحات بشار الأسد الأخيرة، لاسيما ما جاء خلال خطاب ألقاه على "المحامين" هو يقول: "من هذه اللحظة التاريخية الحاسمة يجب على الجميع أن يصحح معلوماته ويعلم أنه لا يوجد في علم السياسة شيء اسمه الحل السياسي، وإنما يوجد المسار السياسي والمسار العسكري للحل".
كما سخر "سبسبي" من مقولة بشار إن "إيقاف إطلاق النار والعمليات القتالية لا يتم إلا بين جيوش الدول، وأن "سبب الأزمة في سوريا في الفهم الخاطئ للمصطلحات السياسية على مدار العقود الثلاثة الاخيرة، وأن الحوار السياسي مع المعارضة يعطيها صفة الشرعية ويرفع عنها تهمة الاٍرهاب".
وتابع "سبسبي": "لكي لا أتدخل في الشؤون الداخلية السورية لن أتعرض إلى مفاهيم الوطنية واللاوطنية والوطني الشريف والخائن والإرهابي والخارج عن القانون، فهذا الأمر أتركه لمفكري سوريا وهم كُثر، وأمور كثيرة وكثيرة لا مبرر لذكرها كاملة".
ووجه "سبسبي" في نهاية مقاله ما يمكن أن يسمى "رسالة رسمية" كلفه الكرملين بإيصالها ونشرها، وهي: "بعيدا عن حرب المصطلحات والتصريحات والمقابلات الصحفية والتلفزيونية لكافة المعنيين في الملف السوري يبقى الشيء الوحيد الذي يجب أن يفهمه الجميع أنه لا حل و لا مسار للخروج من الأزمة في سوريا سوى السياسي.. وأنه لن يستطيع أحدٌ بتاتا تغيير اتجاه التسوية ولن يُسمح له".
أخيرا،، فإن من الواضح أن هناك نغمة جديدة تعزفها موسكو تجاه بشار الأسد شخصيا، وأن حدة هذه النغمة تتصاعد كلما زاد مستوى النشاز (حسب تعريف موسكو) في تصريحات بشار، ولعل مقالة "سبسبي" لن تكون المقطع الأخير في المعزوفة، في ظل إصرار بشار على مزيد من الكلام والسفسطة و"الفزلكة"، منفصلا عن الواقع ومنفصلا عن توجيهات موسكو، التي لم تكن لتنشر مواقفها ورسائلها على الملأ، وتوجه لحليفها قصفا إعلاميا مكثفا خلال أقل من 4 أيام.. لو وجدت أن رسائلها وتحذيراتها المنقولة عبر القنوات الرسمية قد أخذت مفعولها.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية