أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن الخرافة التي تشفي المريض... ميخائيل سعد*

مسجد أبوأيوب الأنصاري - ارشيف

الصيف الماضي كنت في منطقة أومينونو، في اسطنبول الأوروبية، مع صديق سوري ماركسي حتى العظم، كما يُقال، عندما نريد وصف شخص تتلبسه أفكاره حتى النهاية. صديقي كان ماركسيا ملحدا، دون أن يؤثر فكره المختلف على صداقتنا، فأنا أحب البشر وأبني صداقاتي معهم، ليس اعتمادا على "لون" الأعلام التي يرفعونها، وإنما بناء على سلوكهم اليومي وعلاقاتهم مع البشر، لذلك اعتبر نفسي من المحظوظين لأن مروحة صداقاتي واسعة تشمل حملة «ألوان» الأعلام كلها، دون أن يحرجني الأمر، ودون الخوف من اتهامي بالانتهازية، فأنا لست بحاجة لأحد، بل على العكس، وهذا يعطيني تميزي الذي يبحث عنه كل إنسان.

بعد خروجنا من المقهى المميز بتنباك أركيلته، قلت لصديقي يجب أن أزور مسجد أيوب سلطان لرؤيته ولزيارة ضريح الصحابي أبي أيوب الانصاري، الموجود في الجامع. عندما قلت ذلك لم يكن يخطر ببالي أن صديقي سيشاركني الزيارة بحماس لم أعهده عنده. يبدو أن «هدهدة» الباص ذكرتني بحمص، فصديقي وأنا حمصيان وكذلك الواقعة التي سأرويها. 

في شتاء 1965 دخل إلى صفنا، في إعدادية عزة الجندي، بباب الدريب بحمص أستاذ الفنون المحبوب المرحوم «رشيد شما»، مبتسما على خجل كعادته وقال: لا يجب أن نستهين بمعتقداتنا الشعبية، رغم كل سذاجتها وقربها من الخرافة، فهي مع ذلك، ولأنها متجذرة فينا، قد تكون مفيدة في حالات كثيرة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح، وعند الحاجة.

وعندما لم يعترض أحد من طلاب الصف التاسع، تابع: عندي قريب مريض، لم يترك أهله طبيبا إلا وقصدوه ولكن دون فائدة، منذ ثلاثة أيام عثر أخوه، الذي يعمل في سوق الحشيش، على درويش مغربي يكتب حجبا، فطلب من الرجل حجابا لأخيه، وأخبر أخاه بالحادثة ثم علقه على صدره، وقد شفي الرجل فعلا.

تابع الاستاذ رشيد قائلا: ليس الحجاب من شفى المريض، ولكن إيمان المريض بقدرات الحجاب هو الدواء الذي كان يحتاجه.

تجاوزنا المقبرة الضخمة، قبل الوصول إلى أول جامع عثماني تم تشييده في اسطنبول عام 1458، بعد فتح القسطنطينية عام 1453. كنت أتوقع رؤية جامع يختلف عن الجوامع العثمانية، فمن المعروف أن طراز العمارة العثمانية تبلور في عصر السلطان سليمان القانوني مع المعماري الشهير سنان باشا، ولكن ما رأيته كان على نمط العمارة العثمانية، فكيف حصل ذلك؟

عدت إلى التاريخ فوجدت جوابا لتساؤلي: "في عام 1798 أمر السلطان سليم الثالث بهدم الجامع تماما وإعادة بنائه مرة أخرى، في المكان ذاته" وذلك بعد الأضرار الكبيرة التي لحقت به نتيجة الزلزال الكبير الذي أصاب المدينة عام 1766.

لذلك تمت إعادة بنائه على نمط العمارة العثمانية المعروف في باقي المباني.

تقول الحكاية التاريخية إن "أبو أيوب الأنصاري هو خالد بن زيد بن كليب، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، وفي داره نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حين قدم المدينة مهاجراً، وكانت وفاته ببلاد الروم قريباً من سور قسطنطينية عام 669 ميلادية، وكان في جيش يزيد بن معاوية" الذي حاصر المدينة ولكن فشل في فتحها.
عندما فتح العثمانيون القسطنطينية كانوا بحاجة لكل الرموز الدينة الإسلامية لشحذ همم المسلمين في مواجهة محيطهم المسيحي المعادي، الذي كان لا يزال يهدد ملكهم وسيطرتهم على القسطنطينية، ومن هؤلاء وعلى رأسهم كان قبر الصحابي الأنصاري،"فقد درج السلاطين العثمانيون يوم يتربعون على الملك أن يقيموا حفلاً دينياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلدون سيفاً للرمز إلى السلطة التي أفضت إليهم"، و"وفقا لبعض الروايات فإن الشيخ أق شمس الدين، معلم السلطان محمد الفاتح، رأي في منامه المكان الذي دُفن فيه أبو أيوب الأنصاري، وبعد فتح القسطنطينية أمر السلطان محمد الفاتح بتشييد مقبرة له في ذلك المكان".

حسب ما جاء في موقع «قصة الإسلام» فإن لجامع السلطان أيوب قيمة روحية ومناخا معنويا، يثير لدى زواره ورواد المنطقة مشاعر وتأملات الحياة الأخروية.

ويعتبر «مسجد أيوب سلطان رابع الأماكن الإسلامية المقدسة لدى الكثير من الأتراك، يأتي في مقامه بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف.

ورغم أن إسطنبول هي عاصمة المساجد بلا منازع، فإن عددا كبيرا من المصلين يتدافعون إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري" خصوصا أيام الجمعة لأداء الصلاة".

عند وصولنا؛ أنا وصديقي الماركسي ذو الأصول الإسلامية إلى الجامع كان غاصا بالزوار من كل الأعمار ومن الجنسين، ومن بعض الأوروبيين الذي يمكن تمييزهم من ثيابهم ولون بشرتهم وتحدثهم بلغات أوروبية، رويت لصديقي ما كان قد قاله رشيد شما قبل خمسين عاما عن الموروث الشعبي المتمثل في الحجاب وكيف ساعد في شفاء المريض، فانتفض واحمرّ وجهه قائلا بلهجة استنكارية: ماذا تقصد من كلامك هذا، هذه مجرد خرافات ولا مكان لها عندي.

قلت له: وأنا يا صديقي مثلك مع فارق أنني أرى فعلها بين الناس، واحترم قناعاتهم وأحاول أن أراها من الجانب الذي يخدم قضية الشعب السوري في صراعه الوجودي ضد نظام الاستبداد، ماذا يمكن أن تقول لهذه الصبية التي ربما جاءت لزيارة هذا الضريح كي تطلب من الله أن تجد عريسا لها بعد أن هاجر الشباب، وماذا نقول لهذه العجائز الذين واللواتي قدمن يطلبن شفاعة الصحابي الجليل لعل الله يشفيهم من الأمراض، بل ماذا نقول لتلك العجوز الأوروبية التي ركعت لتصلي بلغتها مخاطبة ربها، ولكن في مقام الصحابي الجليل، أليس في كل هذا وذلك عبرة ودرس يمكننا من خلالها معرفة حاجات الناس وتقصير الحكومات في تلبية حاجاتهم تلك؟؟!!.

أليس من واجبنا أن نفهم لماذا قال السوري الثائر "ما إلنا غيرك يا الله"، سواء كان ذلك في الجامع أم في الشارع؟!

أخيرا، أود أن أختم هذه الذكريات بقولي إن الماركسي واليساري الحقيقي هو من يرى الواقع كما هو ثم يحاول تغييره، أما عندما نرى الواقع كما قرأناه في القصص «وخرافات» السياسيين والمفكرين أيضا، فإننا سنصل إلى ما وصلت إليه أغلبية اليسار السوري والعالمي، ونتحول إلى يسار علوي وآخر سني وثالث مسيحي ورابع درزي وخامس شيعي، عداك عن يسار إيراني وآخر روسي وآخر مصري وإلى نهاية المطاف، إذا كان هناك مطاف.

مقالي هذا ليس بحثا عن الإيمان الضائع عند "الماركسيين"، ولا عن الواقع الضائع في تلافيف عقول "المؤمنين"، وإنما محاولة تلمس الواقع الحقيقي كما هو في حياة السوريين قبل أن يموتوا.

*من كتاب "زمان الوصل"
(256)    هل أعجبتك المقالة (242)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي