أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سوري لم يبتلعه بحر أوروبا*

الكاتب: أيها العالم المتحضر اتركوا فسحة لهذا الهارب من الجحيم أن يحلم معكم - أرشيف

حزين ووحيد مثل دمية على شاطئ بارد لطفل ابتلعه البحر وغاب.. أَمرُّ على شاطئ الأطلسي كلّ حين وأتعمّد أوقات غضب المحيط وليلهُ الحالك كي أتذكر كم هو صعب درب الخلاص الذي سلكه السوريون قسراً، كثيرون غرقوا ولا نعلم تفاصيلهم، هم بشر مثلنا لكنّ خوفاً دفعهم لخوف، وموتاً مذلّلاً ومفرطاً في رعبه وقسوته دفعهم لموت باهت خسيس.

قبل عامين كنت أرى رحيلي إلى أوروبا مثل نخلةٍ شلعتها الحرب من رمل الصحراء لتزرعها في أرض مترفة بالخضرة والماء، كنت أغالب ظنوني بأن هذي البلاد ستكون ملجأ مؤقتاً نعيد فيه تجميع أشلائنا، ونتخلص من شَوْهات أرواحنا إلى حين، كلٌّ منّا لديه تفاصيل، لديه أمكنة، لديه خيبات، عنده ذكريات طفولة غير مثالية إلا أنها أمّهات ماضينا، نحبّهن دون الخوض في التفاصيل.

شيئاً فشيئاً تيبست وجوهنا وتحجرت مآقينا ونحن نراقب الغيم المسافر نحو بلادنا، ونحن نجثو على جراحنا، وصرنا مثل عجائز متوحدين مع طفولتهم، نقلب صور دمشق ومعالمها، ونحلم بجراديق الدّير وحنّاء حوران ومواويل حلب وحتى عقارب برد البادية.

كل واحد فينا صار يتابع على الشاشة مدينته أو قريته المدمّرة كأنها يده المقطوعة والمرمية أمام ناظريه، نتفرج على نزيفنا كأطفالٍ مدهوشين لم يصلهم بعد وجع الجروح الساخنة بعد غارة قتلت أهلهم ومزقت أجسادهم.

هل تسمع صوت اللاجئ والمهاجر قسراً أيها العالم المتحضر، أيها القتلة، أيها السياسيون، أيها المحاربون المستلقون على جسد القضية مثل كابوس ثقيل.

سأبدأ بك أيها الغرب المتحضر لأنقل لك الوجع، ولتعلم أن معظم من استقبلتهم من السوريين يفضلون "سيران" الغوطة ووادي بردى وضفاف العاصي والفرات على كل أنهار وغابات أوروبا ومتاحفها، أما وقد صاروا عندكم وهم يدركون صعوبة واستعصاء الدخول في تفاصيلكم فلا تعتبروا دهشتهم بقيم الانفتاح أمراً عجيباً ولا تفترضوا أنهم جاؤوكم فاتحين، فالسوريون بشرٌ بمنتهى الحرارة والحب، بشر امتهنوا صناعة الحياة والفرح، كيف لا وقد عاشوا خمسين عاماً تحت حكم نهب حتى أحلامهم ورغيفهم دون أن يمدّوا أيديهم لأحد، كانت الأم السورية وهي فلاحة فقيرة تضع على إفطار عائلتها عشرة أصناف من مربّى الورد الذي صنعته بيديها إلى خبز التنور الساخن كحضنها، وكان المُعيل السوري يعمل ثلاثة مهنٍ في ذات الوقت كي يكفي أطفاله وكان يعود متعباً لكنه طافحٌ بالحب والحنان، السوريون الذين تستصعبون دمجهم هم أمهر أهل الأرض وأكثرهم حبّاً للعمل، لا تبتزّوهم بلجوئهم وجهلهم بلغتكم، الحياة صعبة عندما تكثر اللجان والخطط والموازنات والأحزاب وصراعاتها، المسألة أبسط من ذلك بكثير، فمن استعمرتم بلادهم عشرات السنوات لم يطالبوكم بالخروج لأنكم غرباء بل لأنكم كنتم تحتلّون المساحة الروحية العاطفية فيهم، وإلا فلماذا يعيش الأرمن والشركس والطاشناق وغيرهم من الملل والنحل على أرض بلادنا منذ قرن دون أن نعيّرهم أو نستشعر خطرهم.

ألا تخجلون حين تخرج صحفكم لتتنبأ بمستقبل طفل قضى في البحر غرقاً وهو يحاول الوصول إلى بلادكم مفترضين أنه سيصبح متحرشاً، أوليست حكوماتكم هي من سكتت على ظلم أنظمتنا الاستبدادية وباعتها الطائرات والغواصات والدبابات وحتى قنابل الغاز المسيلة للدموع وعصيّ ودروع رجال الشرطة.

تذرعكم بخطرنا من خلال مجموعة من الشباب تحرشوا بفتيات رأس السنة تافه وفيه من الذرائعية المملة والممرضة ما يكفي، حاسبوا هؤلاء على أخطائهم ولا تفترضوا أننا أمة بلا أخلاق، ثم لماذا تعيبون علينا أن بناتنا لا يعاشرن الرجال قبل الزواج وأنتم تعانون من مشكلة أن نصف أطفالكم لا يعرفون أحد أبويهم، نحن نتفهم حريتكم ونحب الجانب الواعي منها لكننا نريد للأطفال أن يشبعوا من حليب أمهاتهم وقبلات آبائهم، لا نريد لأخ أن يتعرف على فتاة لا يعلم إن كانت أخته فيخالف فطرة البشر.

امنحونا بعض حلمكم فنحن مجدّون وكرماء، لن يحرمكم وجود بعض منّا حياة المرح، فنحن نحب المرح ولدينا له طقوس في منتهى الجمال ولا نمانع أن تشاركونا موائدنا دون مناسبة، بل فقط لأننا نعيش في ذات الحي، أو لأننا نحب الجار ونجيره ونستجير به.

أما أنت أيها اللاجئ السوري.. لقد أجبرتك الحرب على الرحيل فلا تحمل ذاكرتك وأرشيفك على ظهرك مثل صخرة "سيزيف"، مرّت خمس سنوات، وقد تمرُّ خمس أو عشر أخرى فلا تنكّد عيشك في تعداد مثالب الغرب ومناقب الشرق، لقد هربت بعد أن لامس عنقك نصل المقصلة أو السيف، وليس فرضاً على من استقبلك أن يرى كوابيسك كل ليلة، لا تكتب كل صباح شعراً عن ياسمين الشام وأنت كنت تعيش في "دفّ الشوك"، يكفيك أن تبقى مخلصاً لفكرة أنك سوريّ، ثم عليك أن لا تبالغ في التعبير عن كرهك لنمط حياة الغرب كل لحظة، ثم تتفنن في تعداد مضارّ لحم الخنزير وازدرائك لمن يتناوله، يكفي أن لا تأكله وحسب، ألا يكفيك أن بلاد الغرب "الكافر" كما تقول تؤمن لأطفالك وجبة خالية من لحم الخنزير في مدارسهم، وأنك تذهب إلى الطبيب دون أن تحمل همّ "الكشفية" وثمن الدّواء، عِش كما ترغب لكن لا تغدر ببيئة احتضنتك، نعرف أنك تعاني رهاب التمييز من قبل بعض المتعصبين، لكنك حين تصبح قادراً على التحدث بلغتهم وفهم قوانينهم ستكتشف أن بإمكانك محاكمة رئيس دولتهم أو حكومتهم إن شتمك أو ازدراك بسبب معتقدك، لا تحاجج في تعصّب مجتمعك الجديد فمن فتح الباب لوسائل إعلامهم لتخويف الناس منك هم مجموعة من أبناء دينك اللذين نصبوا أنفسهم وكلاء عن الله، وقطعوا الرؤوس، ورجموا النساء، وأغرقوا وحرقوا وهددوا بغزو بلاد الله وقتل الخَلق، وإن قلت لي إن وراء هؤلاء القتلة أجهزة استخبارات فاعلم أن تلك الأجهزة لا تنسّق مع شعوب تعمل طوال النهار ولا تجد متسعاً لصرف عشر ساعات يومياً على "فيسبوك" و"تويتر" تشتم وتخوّنُ هذا، وتلعن روح ذاك.

أيها السوري الجميل .... لن يمنعك أحد من الحياة والحب إن أردت .. فقط حاول أن تزيح الصخرة من على كاهلك..
أيها العالم المتحضر اتركوا فسحة لهذا الهارب من الجحيم أن يحلم معكم .. حاولوا أن تستمعوا إليه .. ربما تضيفون شيئاً إلى قاموس لغتكم المليء بالمفردات الميكانيكية الجافّة فقد أتى إليكم مثل فرسان إسبارطة .. رغم أن الموت هزم كثيراً منهم إلا أن أكثرهم صرعوه إيماناً منهم بالحياة.

* علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
(172)    هل أعجبتك المقالة (176)

محمد علي

2016-01-24

فعلا يستحق القراءة و الشكر موصول للكاتب.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي