أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الموت جوعا...*ميخائيل سعد

رسم للفنان موفق قات - ارشيف

لا يمكن لكل كلام الدنيا أن يرقى الى مستوى الموت جوعا، فما مارسه نظام الأسد من سياسة لتجويع المناطق السورية الثائرة يمكن للمهتم متابعة تفاصيلها، ولكن من غير الممكن وصف ما يفعله الجوع في النفس والجسد الإنسانين، وتتبع أثره.

إن الصور المسربة عن جوع مضايا، وقبلها عن جوع المخيم، وجوع الغوطة، تقدم لحظة صادمة للعقل والأخلاق والقيم الإنسانية كلها، ولكنها مع ذلك تبقى قاصرة، ولا تستطيع أن تجعلنا ندرك حجم التَكَسّر والانهيارات التي كانت تحصل كل ثانية في مسيرة الجوع، في عقل وجسد المجَوَع.

إذا كان الجوع أو الصيام الاختياري قد سما بالروح وساهم في خلق قديسين أو تقاة أو قادة تحرر، فإن التجويع على طريقة مضايا سيفتت الروح إلى ذرات وسيخلق انتحاريين يخربون العالم، ولا أحد يستطيع لومهم، لأن ما عاشوه لا أحد يعرف آثار خرابه إلا من عاشه لحظة بلحظة.

وكلامي هذا ليس للتخويف وإنما هو أحد الأهداف التي يسعى إليها نظام الأسد وحزب الله والروس والإيرانيون، فهؤلاء يبحثون عن قنابل بشرية تتوالد وقد تستمر لسنوات، كي يبرهنوا للعالم أن "السني" لا يجب أن يحكم سوريا، كما صرح وزير الخارجية الروسي في إحدي المرات، وقد برهنت الأحداث التالية أنه كان "ناطقا" غير رسمي باسم العالم كله تقريبا، (إنّ الصراع يدور في المنطقة كلها، وإذا سقط النظام الحالي في سوريا، فستنبثق رغبة قوية وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سنِّي في سوريا، ولا تراودني أي شكوك بهذا الصدد).

لن يكون جديدا القول إن سياسة الأسدين في "الدعس والفعس" للسوريين مستمرة منذ اللحظات الأولى لوصول حافظ للحكم، وستستمر إلى قتل آخر سوري يحلم بالحرية إذا استطاع بشار الأسد، ولكن التذكير ببعض مفاصل هذه السياسة لن يضرّ، بل ربما يقوي من عزيمة الثائرين والمفاوضين.

كانت مذبحة حماه عام 1982 لتأديب سوريا كلها لمدة خمسين عاما على الأقل، كما كان يحلم أركان نظام الأسد، وهذا ما قاله علي دوبا عام 75 أمام مجموعة من ضباط المخابرات، فقد قال لهم بالحرف، كما نقل لي أحد الحاضرين: إننا نبني مؤسسات كي تبقينا في الحكم خمسين عاما على الأقل.
ثم جاءت سياسة تجويع سوريا كلها من خلال التحكم بكل صغيرة أو كبيرة في الحياة الاقتصادية السورية. ولتركيع السوريين أكثر جاءت سياسة تقنين الكهرباء والماء، ورافق كل ذلك تدمير التعليم والصحة والخدمات العامة، لذلك أصبح توفير ربطة من الخبر "المحسن" من منجزات القائد.

ما أريد الوصول إليه أن سياسة تجويع مضايا والمخيم والغوطة ودير الزور لم تكن سياسة مستحدثة، وإنما هي استمرار لسياسة قائمة، سياسة "كسر رأس السوري"، ولكنها لم تأخذ شكل الفضيحة إلا مع مضايا والمخيم.

في عام 88 منحني نظام الأسد شرف أن أكون سجينا سياسيا عنده للمرة الثانية، وأرسلني إلى سجن المخابرات في طرابس، في مدرسة الأمريكان. 

كنا بحدود أربعين سجينا سياسيا وجنائيا في قاعة واحدة هي قاعة كرة السلة المغلقة في المدرسة، ملحق بها حمام كبير ومرحاض، وكان مستوى الحمام منخفضا عن مستوى أرضية الصالة بحدود المتر.
بعد وصولي بعدة أيام "انسطم" التواليت، وبدأ مستوى المياه القذرة في الارتفاع. حاولنا طلب إصلاح المجارير فكان الجواب "اخرسوا يا كلاب".

ارتفع منسوب المياه المخلوطة بالبراز إلى مستوى الكاحل، فأعدنا الطلب، ولكن الجواب كان عبارة عن ضربات بالكابل الرباعي لمن طلب.

وصلت المياه إلى مستوى الركبة، ولم تعد "الجزمة" البلاستيكية التي وضعها أحد الموقوفين في خدمة الناس، كافية لمنع تلوث الثياب بالمياه.

وصل مستوى المياه إلى ما دون مستوى الباب بقليل، فكان لا بد لمن يريد أن يقضي حاجته أن يقرفص عند الباب ويدير «قفاه» إلى الحمام ويبقي وجهه باتجاه الموقوفين.
عندما مرّ أحد الضباط على المهجع، بعد أن بدأ القمل بالتسرب إلى الغرف الأخرى، وسمع ما قاله السجناء ورأى بنفسه الوضع الكارثي، قال: بتستاهلو أكثر من هيك يا كلاب، هذا نصيب كل من يحاول النيل من القيادة الحكيمة.

عندما تم نقلي بعد شهر من السجن الطرابلسي إلى سجن عنجر، قلت للمساعد الذي كان معنا في السيارة: لماذا لم يتم إصلاح التواليت في السجن، وأنا أعرف أن رئيس الفرع يستطيع بإشارة منه أن يحضر كل بلدية طرابلس لإصلاحه؟

رد ساخرا: ومن قال لك يا خرا إننا نريد إصلاح التواليت، على الناس جميعا أن يخوضوا بالخرا كي يعرفوا قيمة الرئيس الأسد عندما يخرجوا منه!

لم يكن الموت جوعا في مضايا حدثا استثنائيا في مسيرة الشعب السوري تحت قيادة الأسدين، كان تتويجا طبيعا لسياسة لم تكن ترى إلا "الخرا" الذي يغمر رأس وعقل آل الأسد ونصر الله.
لذلك لا بدّ من إسقاط الأسد، فبسقوطه يسقط العملاء الآخرون أيضا.

*من كتاب "زمان الوصل"
(166)    هل أعجبتك المقالة (155)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي