أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

برج غالاطة التركي وحقوق الإنسان المسيحي! *

برج غالاطة.. من أقدم وأجمل الأبراج في إسطنبول - الأناضول

أنا أحد أبناء "العالم الثالث" حتى لو كنت أعيش بالغرب منذ 26 سنة، لأنني أحب التعقيد، وأرى في البساطة والوضوح والعمق في الوقت ذاته إحدى السمات الغربية الكريهة، لذلك أميل إلى التعقيد وامتلاك شخصية مركبة، متعددة الطبقات والوجوه، وبالتالي متعددة الانتماءات، وهذا ما يجعلني فهلويا، سريع الخلاص من المآزق التي تفترض موقفا محددا وواضحا.

اعتمادا على هذا التعريف "الكاريكاتوري المشوه"، يمكنني القول إنني استجبت للدعوة العامة التي وجهتها مؤسسة "هامش" –البيت الثقافي السوري في اسطنبول للاستماع إلى محاضرة بعنوان "سورية، حقوق الإنسان، والحدود الراهنة لعالميتها"، للكاتبة كيلي غروتكة، المختصة بالتاريخ الثقافي الأوربي.

وحضوري تلك المحاضرة لم يكن هدفه التعلم أو اكتساب الثقافة، فأنا والحمد لله علومي كاملة مكملة، وإنما كان الهدف منه هو تسجيل حضوري في أوساط فئة من المثقفين السوريين والأتراك، وإضافتها بعد ذلك إلى سيرتي الشخصية.

بعد انتهاء المحاضرة، سألت جارتي السورية "المؤمنة"، التي تنتظر دورها في العبور اللاشرعي إلى أوروبا الكافرة صاحبة حقوق الإنسان المسيحي فقط، إذا كانت ترغب في مرافقتي لزيارة برج غالاطة التاريخي، والقريب من "سالت غالاطة"، المكان الذي جرت فيه المحاضرة، فرحبت بالفكرة، وبدأنا "الصعود"، فللوصول إلى البرج يجب أن نصعد الأزقة التاريخية الضيقة للحي، وكأننا نتسلق أحد الجبال، وربما كان لأصولنا الجبلية أنا وزميلتي علا ما دفعنا للقيام بهذه المغامرة بدل أن نركب مترو الأنفاق القريب.

المهم، بعد جهد وتوقف عدة مرات لاستنشاق عبق "التاريخ" البيزنطي والجنوي والعثماني الراشح من ثقوب الجدران الحجرية ومن الأقبية التي تحولت إلى محلات تجارية تبهر السائحين، كما يقول الأدباء، وصلنا إلى ساحة البرج التي تتحول إلى مقهى يغص بكؤوس الشاي التركي، وبرواده من الباحثين عن "اكزوتيكا" التاريخ الشرقي، حتى لو كان البناء غربي الأصل.

سألت علا: ماذا تعرف عن هذا البرج، فأنا لا أعرف اللغة التركية كي أقرأ ما هو مكتوب على لوحة التعريف بهذا الأثر العظيم؟

لمعت في ذهني فورا جملة قالها المعماري العثماني الأشهر "سنان" لأحد تلاميذه، وقد سجلتها الكاتبة التركية الكبيرة "أليف شافاك" في روايتها "الفتى المتيم والمعلم"، حين قال: "عندما تتمكن من لغة ما، فذلك يعني أنك أُعطيت مفتاحا لقلعة.أما ما ستجده داخل المكان، فيعتمد عليك".

قلت لعلا: تعالي نبحث عن مفتاح القلعة باللغة العربية، كما يفعل هؤلاء الأجانب عبر لغاتهم؟، لنرى ما سيقدمه لنا عن المكان وتاريخه وعالمه وما سنجده داخل المكان عنا كسوريين، وجدوا أنفسهم عراة في اسطنبول أمام باب قلعة غلطة دون بلد!

يُقال إن البرج الأصلي بناه البيزنطيون عام 507 ميلادي في عهد الامبراطور ايوستينيانوس، وقد تم هدمه من قبل الصليبيين الأوروبيين، وليس الصليبيين الروس المعاصرين، في حملتهم الرابعة عام 1203، التي دمروا أثناءها االقسطنينية، وحولوها إلى خرابة وقبر كبير، في طريقهم إلى السيطرة على قبر المسيح في فلسطين.

في عام 1348، أعاد الجنويون، وهم أهل جنوى الإيطالية الآن، بناء البرج في مكانه الحالي مستبدلين الخشب بالحجارة، وأطلقوا عليه اسم برج المسيح، ربما تحديا للصليبيين الذين دمروا البرج القديم.

البرج مكون من تسعة طوابق، ويبلغ ارتفاعه حوالي 66.90 مترا، وقطره الخارجي 16.45 مترا، و قطره الداخلي 8.95 مترا. سماكة الجدران 3.75 م، يبلغ ارتفاعه حولي 35 متراً فوق سطح البحر.

يوجد بالطابق العلوي مقهى ومطعم، مما يعطي للزائر فرصة نادرة للاطلاع على جمال المنظر المطل على اسطنبول؛ القرن الذهبي ومضيق البوسفور، ويوجد بالبرج مصعدان.

تغيرت وظائف البرج، كما في كل الحضارات، حسب حاجات الحكام، فهو تارة منارة للسفن، وتارة سجنا لصانعي السفن.

مرة كان مرصدا للنجوم وأخرى مرصدا للحرائق الاسطنبولية، ومكانا لرغبة الإنسان في كسر أغلال الطبيعة وتجريب الطيران كالنوارس البحرية التي تملأ الافق.

مرة كان سجنا وأخرى مركزا للتواصل مع العالم الخارجي إلى أن استقر به الحال الآن كمكان للترفيه في خدمة البشرية التي أبدعته.

عندما قرأت أنه كان سجنا لبعض البشر، نظرت في عيني زميلتي علا، وسألتها إذا كانت تتذكر ما قالته الباحثة الغربية التي كنا نستمع إليها قبل قليل عن سوريا وحقوق الإنسان، فقالت: نعم أذكر بعض ما قلته.

تحدثت عن تراجع مفهوم حقوق الإنسان عن عالميته، عندما تعلق الأمر بحقوق الإنسان السوري في الحياة. كما أشارت إلى أن بعض مفاهيم حقوق الإنسان كانت لخدمة المسيحيين تحديدا وحريتهم في التعبير عن قناعاتهم في ظل روسيا الشيوعية، وأن من اخترع هذه الحقوق هم رجال دين مسيحيون متشددون.

كما أشارت إلى "ماذا يمكن للثورة في سورية ولمضاعفاتها اللاحقة أن تسهم في هذه المناقشة؟ وماذا تكشف تجارب السوريين بخصوص أوجه قصور لغة حقوق الإنسان الراهنة ومؤسساتها، وكذلك عن ممكنات تحقيق مستقبل أكثر إنسانية أخلاقية وكرامة؟".

كنا قد صعدنا إلى البرج، وأطلينا على المناظر الخلابة لاسطنبول من جهاتها الأربع، وعندما عدنا إلى الأرض كان بعض السوريين قد وصلوا إلى الساحة حديثا، كانت أحاديثهم تشي بالخوف من القادم المجهول، وخاصة عن القوانين التي تقيد حركة السوريين في تركيا، ويتساءلون: هل سيقرأ الأتراك بدورهم حقوق الإنسان على أنها حقوق للأتراك فقط، وليست للسوريين التي تقطعت بهم سبل الحياة؟ وهل سينتصر تعريف الإرهابي بشار الأسد للسوري على أن "سوريا لمن يدافع عنها أيا كانت جنسيته"، أي أنها للإيراني والروسي واللبناني والعراقي فقط.

*ميخائيل سعد - من كتاب "زمان الوصل"
(147)    هل أعجبتك المقالة (146)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي