أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

رسالة إلى اللاجئين السوريين*

أرشيف

وصلت إلى كندا عام 1989، هاربا من جحيم "افتراضي" مقارنة مع ما يجري هذه الأيام في سوريا. فكل ما تعرضت له كان السجن لعدة أشهر في سوريا ولبنان، ومنعي من السفر، ومراقبة رواد مكتبتي، وابتعاد الناس عني وكأنني "أجرب" بفعل الخوف من مخابرات النظام، والاستمرار في الضغط عليّ لمراجعة فرع المخابرات العسكرية في حمص مرتين في الأسبوع، لإثبات وجودي من جهة، ولتحويلي إلى مخبر عند الفرع المذكور ضد أصدقائي ورواد مكتبتي من جهة أخرى.

لذلك، بالإضافة إلى حلم الهجرة إلى الغرب، وأشياء أخرى، قررت الخروج من البلد، فقد نفد صبري مع بلوغي سن الأربعين، وسهّل لي معاملات "الهرب" أصدقاء في السلطة، وهكذا وجدت نفسي في كندا، تاركاً ورائي وطناً لا أعرف مكانه وحجمه في عقلي وقلبي، وعائلة مكونة من زوجة وطفل، وأهلاً وأصدقاء، وعملاً، سعيت أن يرتقي إلى حلم الشعراء، بالإضافة إلى بيتٍ عملت طوال حياتي لامتلاكه، ولم أسكنه إلا مدة شهرين.

لم يتأخر تفجّر الحنين إلى الوطن، فقد جاء مبكراً، رغم العذاب فيه، والخوف الذي يحيط بي، وكأنه الرحم الذي يغلف وجودي.

لم أكن شجاعاً في التخلص من مشاعر الخوف، ولا خجلاً منها، لا في أحلامي ولا في الحياة اليومية. ومع ذلك، بدأت الشكوى، وبدأ الحنين إلى ما كنت فيه، وقد أثر ذلك على قدرتي على التأقلم مع المجتمع الجديد.

ولم أعد قادراً إلا على رؤية سلبيات الغرب، رغم أن الدولة الكندية كانت تقدم لي أساسيات العيش الكريم، ليس لأنني لاجىء سوري، ولكن لأن القانون يعطيني هذه الحقوق، كما يعطيها لكل الآخرين المقيمين على الأرض الكندية.

كنت مولوداً جديداً، وُلدت وأنا في الأربعين من العمر، تتنازعه رغبتان؛ الثراء والنبوة؛ نزعتا الشرقي الأبديتان، لكن لم أعمل في الحقيقة لامتلاك هاتين الرغبتين، أو إحداهما، فقد كنت سجين عقل تم تشكيله في ظل الاستبداد، واستعاض عن ذلك بالبكاء، ولوم الذات وجلدها على ترك الوطن، أو لوم الآخرين.

وكانت أولى الردود على نوحي، الذي وصل إلى سوريا، رسالة من المرحوم الصديق الأب اليسوعي جوزيف كردي، الذي كان جاري، وراهباً في دير الآباء اليسوعيين في حمص، وهو الدير نفسه الذي استشهد فيه الأب فرانس في أواخر أيام حصار الأحياء القديمة في حمص، ربما، نتيجة إصراره على البقاء "قرب الله" والناس في ديره الحمصي.

كتب لي الأب كردي: "لا تنظر إلى الهجرة كشرّ مطلق، فهي أيضاً نوع من المغامرة مبنية على التضحية".

أثارت موجات اللجوء السورية هذه الأيام إلى بلدان العالم، وخاصة إلى أوروبا، الرغبة في "الكلام" عند السوريين، بين ناقد ومهاجم ومدافع، وقد كنت أحد هؤلاء الناس، سواء عبر الرد على استشارات أرسلها أصدقاء فيسبوكيون، أو عندما كنت في تركيا ويسألني الناس هناك عن اللجوء البحري، وما يزال موقفي هو نفسه رغم مخاطر المغامرة؛ نعم أنا مع محاولة السوري البحث عن مكان آمن يستطيع العيش فيه بأمان.

أما كيف سيكون لون أحلامه، ولون دموع الحنين إلى الوطن بعد ذلك، فهي برأيي ستبقى محمولة ومقبولة أكثر من رؤية دمائه أو دماء أطفاله نازفة بفعل قنابل الطائرات الروسية، أو السورية، أو طائرات التحالف الدولي، أو بفعل رصاصة صادرة عن مسدس كاتم للصوت وُضع في يد مراهق "جائع"، كما حصل منذ أيام بالنسبة للإعلامي ناجي الجرف، الذي قتل اغتيالاً في غازي عنتاب.

نعم، في اللجوء إلى الغرب عذاب، ولكن فيه لا ينام السوري تحت خيمة بلاستيكية، أو تحت سقف كرتوني، ولا ينام وهو يتلوى من الألم وأطفاله لا يجدون ما يأكلونه، أو لا يجدون حبة الدواء، ولا المدرسة.

نعم، فاللاجىء إلى الغرب سيتلوى من عدم قدرته على التأقلم مع الأخلاق المختلفة، والدين المختلف، وقوانين العمل المختلفة، والعلاقات الاجتماعية المختلفة، مع صوت الزوجة الذي يعلو، وصوت الطفل الرافض للأوامر الأبوية.

كل هذا صحيح، ولكن كل هذا سيحضر في ذهنه بعد أن يكون قد حقق شرط الأمان والعيش الكريم له ولعائلته، وهذه طبيعة البشر، وليس في ذلك أي نوع من أنواع التنكر للمعروف، أو "البصاق في الصحن" الذي قدمه الغرب للاجىء.

هناك من قال وسيقول: لمن سنترك الوطن إذا غادره أهله؟
شخصياً، لا أريد الدخول في هذا الهرج. ولا أريد التذكير بأن من ترك الوطن في البداية هم الذين من المفترض أنهم "مناضلون"، وبالتالي لم يعد يحق لهم دعوة الناس العاديين للبقاء تحت قصف الطائرات والمنازل التي تتهدم فوق رؤوسهم، وصعوبة تأمين لقمة الأكل لهم ولعائلاتهم.

فصعوبات العيش، التي حولها نظام القتل الأسدي إلى جحيم دفعت بعض من بقي من الناس لمحاولة الهرب إلى أي مكان لا يموتون فيه، قبل أي شيء آخر، وهذا حقهم.

أما في المناطق الأخرى، حيث الموت يكون مختلفاً، فقد لخصه لي شاب هرب من الرقة، قبل مغادرته إلى أوروبا، قال: لا أريد لابنتي الرضيعة أن تكبر في ظل قوانين "داعش".

أنا أستطيع التكيف مع هذه القوانين، ولكن لا أستطيع تقبل فكرة أن أترك ابنتي تكبر في هذا المناخ.

أخيراً، لابد لي من التذكير أنه من الإجحاف مقارنة ظروف لجوئي مع ظروف السوريين الآن، وإنما كان الكلام عن تجربتي عبارة عن مدخل للحكاية لا أكثر.

وكلي أمل أن تكون مغامرتهم الحالية مدخلاً لحياة جديدة تحقق لهم ما افتقدوه خلال سنوات "تغريبتهم الكبرى" المستمرة منذ سنوات، على حد تعبير الصديق الشاعر نجم الدين سمان.

بقي شيء واحد أحب أن أذكّر به السوريين الذي وصلوا إلى الغرب، أو الذين سيصلون، ألا وهو ابتعادهم عن "العنف"، مهما ضاقت بهم ظروف "الأخلاق"، أو ظروف "التكيف"، ومن لا يستطيع منهم الابتعاد عن العنف فمن الأفضل له أن يعود من حيث أتى قبل أن يتورط فيه، ويورط الآخرين، ولا أعتقد أن السوريين عاجزون عن تأمين ما يلزمهم من "الفتاوى" لتحقيق مزيد من التأقلم مع مجتمعاتهم الجديدة، ومن استطاع إيجاد "فتاوى" قبول العيش في ظل الأسدين خلال خمسين عاما، يستطيع ذلك في الغرب، إلى أن تنتهي أزمتنا ويسقط نظام الأسد، وبعد ذلك لكل حادث حديث.

*ميخائيل سعد - من كتاب "زمان الوصل"
(147)    هل أعجبتك المقالة (146)

لماذا الغمز واللمز وأنت ت

2015-12-29

"ومن استطاع إيجاد "فتاوى" قبول العيش في ظل الأسدين خلال خمسين عاما، يستطيع ذلك في الغرب" !!!!!! هذه الفتاوى يا سيدي ليست بفتاوى إنما هي تعليمات مخابراتية بعثية يقولها رفيق بعثي خسيس يرتدي عمامة . وشكراً.


محمد علي

2015-12-30

مقال جميل شكرا استاذ مخائيل ..


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي