ميدوسا الأسطورة والواقع*

في دائرة قطرها لا يتجاوز 200 متر نشاهد "العالم" مكثفا. ففي هذه الدائرة نرى الكنيسة البيزنطية الشهيرة "آيا صوفيا"، التي تحولت إلى جامع ثم الى متحف. وعلى بعد خطوات نرى "حجر نقطة الصفر" الذي يسمى حجر المليون، الموجود مقابل متحف "آيا صوفيا"، وغير بعيد عنه نشاهد مدخل "القصر المغمور" أو ما يعرف باسم صهريج البازيليك، أو خزان المياة الأرضي.
وفي مدى الرؤية المباشرة للعينين نرى "ميدان سباق الخيل" البيزنطي، الذي كان "محورا للحياة البيزنطية على مدى 1000 عام، وكذلك للحياة العثمانية على مدى 400 عام أخرى.
وفي نهايته نشاهد مسلة ثيودسيوس الجرانيتية الرائعة، التي تم نحتها في مصر في حوالي 1450 قبل الميلاد. وقد جلبها ثيودسيوس الأكبر (379 – 395) من مصر إلى القسطنطينية في 390 بعد الميلاد.
على اللوحات الرخامية الموجودة أسفل المسلة توجد نقوش ثيودسيوس، وزوجته، وأبنائه، ومسؤولي الدولة، والحرس الشخصي الذين يشاهدون سباق العربات من kathisma (المقصورة الإمبراطورية).
إلى جنوب المسلة يوجد عمود غريب الشكل يخرج من حفرة في الأرض. يُعرف هذا العمود باسم العمود اللولبي أو محمل بلاتيا.
على أحد جانبي الميدان يوجد حاليا قصر "ابراهيم باشا"؛ الصدر الأعظم للسلطان سليمان القانوني، وهو القصر الذي أهداه السلطان القانوني للصدر الأعظم بعد زواجه من شقيقته "خديجة".
في الجانب الآخر، مقابل قصر ابراهيم وخديجة، من الجهة الشرقية للميدان تم بناء جامع "السلطان أحمد" المعروف باسم الجامع الأزرق، الذي بني عام 1616 ومهندسه محمد آغا أشهر المعماريين الأتراك بعد سنان باشا وداود أغا.
يقع المسجد جنوبي "آيا صوفيا" وشرق ميدان السباق البيزنطي القديم، وله سور مرتفع يحيط به من ثلاث جهات.
يتكون الصحن من فناء كبير، ويتوسط الصحن ميضأة سداسية محمولة على ستة أعمدة، أكبر الأبواب التي تؤدي إلى الصحن يظهر فيه التأثر بالفن الفارسي.
وفي بداية الميدان، الذي أصبح يعرف باسم ميدان السلطان أحمد، نشاهد نافورة المياة الجميلة التي قدمها الإمبراطور الألماني "وليم" أثناء زيارته للسلطان عبد الحميد الثاني في 1898 كعربون صداقة للسلطان وشعبه.
خلف جامع السلطان أحمد يوجد متحف الفسيفساء والموزاييك، أو متحف القصر العظيم للفسيفساء، ويحتوي على جداريات فسيفساء قديمة تاريخية منذ العصرين الإغريقي والبيزنطي.
وهناك أشياء أخرى في هذه المساحة الجغرافية الصغير، وقد أردت القول من خلال هذا الاستعراض الموجز والسريع إن الحضور البشري هنا عميق ومتنوع وشامل، وإذا كانت الآثار هي دليلنا إلى قراءة هذا الغنى، فإن الهدف الحقيقي ليس قراءة الحجر وإنما قراءة البشر المعاصرين، ليس فقط من خلال ثيابهم وحركاتهم ومعتقداتهم الدينية والفكرية الظاهرة للعيان وإنما من خلال العمق التاريخي التفاعلي الذي ساهم في تكونهم.
كانت إسطنبول أكبر مدن العالم في القرون الوسطى، وخلال تاريخها الطويل، اعتُبرت إحدى أكبر وأهم المدن في العالم. استقطبت المدينة، لأهميتها الجغرافية والسياسية، شعوبا عديدة ومجموعات عرقية مختلفة من جميع أنحاء أوروبا وآسيا وأفريقيا منذ العصور القديمة.
يستطيع الزائر صاحب العينين الفضوليتين أن يرى بالعين المباشرة، في أكثر من مكان من المدينة التاريخية أربع طبقات تاريخية؛ على السطح يشاهد العصر الإسلامي، الذي بدأ مع فتح القسطنينية 1453، وتحته مباشرة العصر البيزنطي ومن أشهر بقاياه كنيسة آيا صوفيا، وقبل هذا العصر نشاهد بقايا العصر الروماني ومن أشهر معالمه عمود قسطنطين، والذي وُضع في مكانه عام 330 من قبل الإمبراطور قسطنطين الأول، إعلانا بجعل المدينة العاصمة الجديدة للامبراطورية الرومانية.
أما العصر الإغريقي فمن أبرز معالمه في إسطنبول هو "برج العذراء"، أو "برج البنت"، وكنت قد كتب سابقا مقالا عنه في زمان الوصل، وقد بُني هذا البرج أساسا من قبل اللواء الأثيني "آلسيبايديز" عام 408 قبل الميلاد للتحكم في حركة السفن الفارسية في مضيق البوسفور.
وحتى لا نبقى على "السطح" رأيت أن أغوص قليلا في الأعماق، ولا أقصد أعماق البوسفور، المليء أيضا بالأسرار، ولكن أعماق العصر البيزنطي المستمر في الحياة حتى الآن في اسطنبول، وأقصد خزان البزايليك الأرضي أو حوض الكاتدرائية أو القصر المغمور، وهو الخزان الأرضي الأكبر من بين مئات الصهاريج القديمة التي تقع تحت مدينة "القسطنطينية".
تم بناؤه في القرن السادس في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، يقع على بعد 150 م إلى الجنوب الغربي من آيا صوفيا، وتبلغ مساحته 8.970 مترا مربعا.
كان هذا الخزان يحوي نظام تنقية للمياه للقصر الكبير في القسطنطينية وغيره من المباني الأخرى الواقعة على التلة الأولى.
ويبلغ طول الصهريج (138) مترا، وعرضه (65) مترا ويستوعب ثمانين ألف لتر من الماء، القاعة الداخليه فيه تحوي (336) عمودا رخاميا ضخما.
ويبلغ ارتفاع العمود الواحد (9) أمتار، ويتألف سقف الخزان من قناطر، وتم تلبيس جدران الخزان والتي يبلغ سماكتها (3.5) متر بماده خاصه لمنع تسرب المياه.
من اللافت للانتباه وجود تمثالين لرأس ميدوسا أو ميدوزا تحت قاعدة عمودين من أعمدة الخزان في نهايته، وليس هناك من تفسير محدد لذلك إلا ما يتناقله الناس من شائعات، وتقول الأسطورة:
"ميدوسا كانت في البدء بنتا جميلة، غير أنها مارست الجنس مع بوسيدون في معبد أثينا وهذا ما جعل أثينا تغضب، فحولتها إلى امرأة بشعة المظهر، كما حولت شعرها إلى ثعابين وكان كل من ينظر إلى عينيها يتحول إلى حجر".
وبما أن ميدوسا كانت قابلة للموت فقد تمكن برسيوس بمساعدة هرمس، حسب الميثولوجيا الإغريقية، من القضاء عليها وقطع رأسها، لما نظر إلى صورة انعكاسها في درع أثينا، وأهدى رأسها لأثينا التي كانت قد ساعدته وقامت بوضعه على درعها المسمى بالأيغيس.
ولما كان لا بد من قتل هذا الشر المتمثل في ميدوسا تم تكليف بيرسيوس للقيام بذلك الدور، حيث واجه الموت لكى يقتلها، ولكن كان لا بد له من امتلاك أربع أدوات بدونها لا يستطيع إتمام ذلك، وهى:
1- سيف قوي وحاد بالدرجة الكافية لكى يقتلها من ضربة واحدة.
2- حذاء هرمس الذي يستطيع بواسطته الطيران.
3- خوذة هادس التي تحجب أخوات ميدوسا عن رؤيته أثناء دخوله وخروجه.
4- الحقيبة التي يحمل فيها رأسها كي لا يواجه أحد قوة عينيها فيتحول إلى حجر.
رأى بيرسيوس انعكاس ميدوسا من خلال درعه، وهى لم تستطع رؤيته بفضل الخوذة، فباغتها بضربة قطعت رأسها.
وأخيرا كنت أتساءل، وأنا أتابع قراءة الأسطورة، عن مدى حاجة السوريين إلى أشخاص مثل "بيرسيوس"، وإلى أنواع الأسلحة اللازمة، والتي ورد ذكرها في الأسطورة، للقضاء على بشار الأسد؛ ميدوسا السوريين، الذي لم يكن يحول ضحاياه إلى حجارة وإنما إلى جثث ملأت كل زوايا سوريا، خاصة وأن العالم مصرّ على منع السوريين من امتلاك الأسلحة اللازمة للدفاع عن أنفسهم.
هل تكون الأسطورة هي سلاحنا الوحيد في مواجهة الأسد وبوتين وحزب الله وملالي إيران، وهل تنقصنا فعلا الأساطير لننتصر؟
* ميخائيل سعد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية