أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أنثى تأكل شباب الشام.. علي عيد

دمشق القديمة - عدسة شاب دمشقي

قَلِقاً وقفت خلف زجاج النافذة أنتظر عودة ولدي بعد ربع ساعة من خروجه إلى مركز تجاري يبعد فقط ثلاثين متراً عن البيت، لهيب أحرق قلبي فجأة عندما تذكرت ما يجري في سوريا، وكيف تحترق أكباد الرجال وقلوب الأمهات وجعاً على أبنائهم كل يوم، بعضهم لا يعرفون مصير أولادهم، وبعضهم لم يتلقَ سوى وثيقة ورقية أو هوية تخبره أن ابنه قد مات.

على مدى أسبوع مضى قرأت ما كتبه ناشطون وأصدقاء مازالوا يعيشون في دمشق على سبيل المقاربة، كان أكثر ما يلفت هو لغة الدعابة التي استخدمها كثيرون على صيغة افتقاد النساء والصبايا لشباب الشام، وليس أصعب من أن يبتلع الناس سكيناً قاتلاً بالنكتة وخفة الظلّ، وكان مفهوماً عندي أن هناك من لا يستطيع أن يطالب أجهزة النظام بالكف عن اعتقال الشباب وتعبئتهم في معارك لا يريدونها.

وأنا أفكر في غيبة ولدي القصيرة لبضع دقائق هاج قلبي على كل الأطفال والشباب الذين قضوا هكذا بلا أعراس فرح ولا حتى أعراس حزن ومآتم، غادروا مثل سكتة في قلوب ذويهم، نعرف منهم من مات قصفاً ومن مات تعذيباً ومن مات أيضاً حرقاً كمثل شاب في مدينتي "بصرى الشام" حين اقتحمها جيش النظام، كان عريساً طازجاً مثل رغيف خبز تنور، لم يغادر البلدة كبقية الشباب، أراد أن يدافع عن رائحة الحياة في فراش غرفة نومه الجديدة والتي أتعبه جمع ثمنها، قال لهم لن أغادر فأحرقوه، هكذا فعلوا، وضعوه مع فراشه المعطّر للتو وأطعموا جسده وأحلامه وروح زوجته وأمه للنار.

من يملك قرار حرق جيل من الشباب، ولماذا لا يقف حتى القتلة ليسجلوا ملامح قتلاهم، هذا شاب أهيف جميل ممشوق القامة، وذاك واسع العينين ممتلئ وجهه بالحب، وآخر حزين ومتعب، لماذا قتلتنا الهوية، وكيف لمن بنى لحم أكتافه من شقاء السوريين أن يقتل أولادهم، وكيف لم ينفع الملح ولا الخبز ولا حتى الخوف من الانتقام.

مثلاً.. أين أصبح خمسون ألف شاب تعرفوا على حناجرهم في مظاهرة في المزة وآخرون مثلهم في كفرسوسة أو ساحة الساعة بحمص أو درعا البلد، كانت البلاد ملأى بالورود، كانت رائحة الحياة في ربيع 2011 أقوى من الغاز المسيل للدموع ومن دخان البارود... انتهى كل شيء ليس دفعة واحدة وإنما على مراحل، ليثبت التاريخ يوماً أن القتل لم يكن بديلاً طارئاً عن الإقناع أو الحوار بل كان هدفاً صريحاً وواضحاً مثله مثل أي قرار تصفية اعتادت أجهزة المخابرات تنفيذه بدم بارد.

لا أدري إن كانت أجهزة النظام التي أدار رجالها الحرب على الشعب كانوا يضعون في حساباتهم التخلص من نصف الشعب أو تصفية شريحة الشباب منهم بشكل خاص، فقد نقل لنا بعض الذين التقوا مسؤولي المخابرات والحزب أنهم ـ المسؤولين ـ لا يرون مشكلة في التخلص من ثلاثة ملايين أو حتى العودة إلى سوريا بعشرة ملايين نسمة فقط، أشك أن هؤلاء قد قرؤوا نظريات تضخم عدد الشباب منها ما جاء به صموئيل هنتنغتون صاحب "صراع الحضارات"، وكذلك عالم الاجتماع الألماني غونر هينسون الذي يرى أن تضخم الشباب يحدث عندما يصبح بين 30 و40 % من الأفراد في أمة من الذكور الذين ينتمون إلى "سن القتال" من 15 إلى 29 سنة. 

نعرف أنه في الحروب يقتل الذكور أقرانهم الذكور، وأن الشباب هم البيئة الواقعية للقتال، وهم خطوط الهجوم والدفاع، هم الضحية وهم أدوات القاتل، بعضهم يموت من أجل الحرية، وبعضهم من أجل المال، آخرون يدفعون الخوف بأرواحهم ودائماً هناك لعبتان متداخلتان يصعب فك الالتباس فيهما، الأولى هي لعبة بين المجرم والضحية، والثانية هي لعبة الحياة والواقع والاقتصاد وعلم الاجتماع السياسي.

هل فقدت سوريا شبابها وفقا لنظرية هينسون التي تقول إن ارتفاع معدل الخصوبة إلى أكثر من 2.1 % يتسبب زيادة ديموغرافية مع تراجع فرص العمل وصعوبة الحصول على حياة جنسية شرعية قبل الحصول على مهنة يمكن للشباب خلالها كسب ما يكفي لإعالة أسرة، حيث نحصل بعدها على ستة احتمالات تنتج عن تضخم عدد الشباب وهي:
ـ الجريمة العنيفة. 
ـ التمرد أو العصيان.
ـ الهجرة.
ـ الحرب الأهلية أو الثورة.
ـ الإبادة الجماعية.
ـ الفتح أو الاستعمار العنيف. 

في بلادنا تحققت خمس من النتائج الست هي الجريمة العنيفة، والهجرة، والتمرد، والثورة، والإبادة الجماعية، ولعل النتيجة السادسة كان يمكن أن تحصل لو لم تستوعب أطراف دولية مدى الرعب والموت الذي أدى لخروج نحو 4 ملايين سوري أصبحوا لاجئين في دول الجوار وبعضهم في دول بعيدة.

لقد سجلت سوريا معدل خصوبة مرتفعاً ويكاد يكون من أعلى النسب عالمياً حتى عام 2010 حيث ناهز 3 %، كما أن معدل الشباب بين سن 15 و29 سنة وصل إلى 30 % من عدد السكان، وهؤلاء الشباب هم فقط جزء من سوق العمل لكنهم العماد الرئيس لسن القتال، وهذه المعدلات ترافقت مع نظام حكم غير راشد، إذ سيطرت العائلة الحاكمة ومجموعة من رجال الأعمال المتحالفين معها على نحو 80 % من اقتصاد البلاد الحر ممثلا بشركات الاتصالات والعقار والسياحة والنقل. 

ووفقاً لهذا الترتيب المنطقي هل يمكن اعتبار سوريا واحدة من البلدان التي كانت مؤهلة لمثل ما حصل، ولكن.. لماذا لم يحدث هذا في دول قريبة أو تشهد نمواً سكانيا مماثلا. 

لعل الإجابة على السؤال الأخير ليست صعبة في علم الاجتماع السياسي لكنها في غاية الصعوبة عندما لا يلتفت العالم إلى المنطق بل ويستطيع المتحكمون بالاقتصاد ممثلين برجال السلطة وأجهزة استخباراتهم وإعلامهم توجيه الأسباب بما يضمن تطبيق نظريتهم "إما نحن أو لا أحد"، وإلا فكيف يمكن فهم مقولة رجال السلطة المتحكمين بالاقتصاد بأنهم سيقاتلون حتى آخر رجل، وأن لديهم الكثير، وهذا ما صرح به على الأقل رجل الأعمال وأحد أركان الأسرة الحاكمة رامي مخلوف في الأسابيع الأولى التي أعقبت اندلاع الثورة في سوريا. 

تشير الإحصاءات التي سجلها حقوقيون وناشطون وهي إحصاءات غير نهائية إلى أن 89 من الضحايا اللذين سقطوا بنيران النظام هم من الذكور حيث يتجاوز عددهم 123 ألف ضحية حتى نهاية أيلول ـ سبتمبر 2015، أضف إلى إحصائية المرصد السوري لحقوق الإنسان التي تقول إن نحو 75 ألفاً من قوات النظام قتلوا في المواجهات وأن هناك نحو 10 آلاف مختطف وأسير، كما أن مصير نحو 20 ألف شخص اعتقلتهم أجهزة النظام بات مجهولاً. 

مجمل العدد السابق من الشباب يصل إلى 250 ألف قتيل مؤكد ومحتمل، أضف إليهم معدل الضعفين في الإصابات (نحو 500 ألف) وهي نسبة طبيعية في الحروب، إضافة إلى نحو 250 ألف شاب مازالوا يقاتلون، وهذا يعني أننا أمام مليون شاب هم خارج الحسابات بين قتيل أو مشروع قتيل بشكل مؤكد علماً أن التقديرات تقول إن القتلى غير المسجلين قد يصل إلى ضعف ما هو مسجل.

بعد ما سبق ليس غريباً أن تقطع فتاة دمشق من سوق الحميدية إلى الصالحية دون أن تجد شاباً يشاغب عليها، وليس غريباً نشهد فجوة في الشرائح العمرية بعد أن تضع الحرب أحمالها، وليس غريباً أن يكتب التاريخ أن ثلة من الأوغاد سلموا 23 مليون سوري للموت براً وجواً وبحراً وبرصاص محلي وصواريخ عابرة للقارات من أجل أن يبقوا في السلطة، أو خوفاً من أن يحاسبهم الشعب على سرقاتهم وجرائمهم، وبعيداً عن كل النظريات والإحصائيات سيبقى هناك سؤال محيّر بعد اليوم، هو كيف يمكن ائتمان المدافعين عن حرية الشعوب على مستقبل الأرض حين يعيدون إنتاج الطغاة ويضبطون بوصلتهم باتجاه إرهاب دون آخر.

يبقى أن أقول بأن الحرب أنثى، تأكل قلوب الأمهات، وأن السلام مذكر يحتاج جسارة الرجال وإخلاصهم.

(196)    هل أعجبتك المقالة (192)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي