أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

رمضان في باريس برهان على التسامح وتعانق الحضارات

قد يحمل العنوان دلالات أكبر من الواقع. باريس ليست عاصمة إسلامية حتى يشعر الزائر بحضور شهر الصيام في كل نواحيها، كدمشق أو القاهرة أو عمان أو اسطنبول. لكنها كحاضرة منفتحة على كل الثقافات والحضارات والأديان المختلفة، تشعرك أنها حاضنة حقيقية لكل ما يختلف عنها بحب وكأنه منها.

كل الغرباء يشعرون بثقل الغربة في حياتهم اليومية في كل عواصم الغرب ومدنه، إلا في باريس فهي ملاذ كل مغترب عن وطنه الأم. ‏

أما لماذا هي كذلك. فلهذا قصة طويلة، تعود الى خصوصية نشوئها منذ بداية الألفية الثانية كعاصمة لبلاد «الغال»، ومن ثم بسط سيطرتها تدريجياً على الدوقيات والامارات المجاورة لها، تمهيداً لتحولها مركزاً لإمبراطورية أخضعت نصف الكرة الأرضية الى سيطرتها، فضمت تحت عرشها شعوباً متنوعة مما وراء البحار، وامتزجت معهم، ومزجت الكثير منهم في بوتقتها وأوصلت قادة عظاماً لم يكونوا فرنسيين الى سدة البلاد الملكي الامبراطوري، كهنري الرابع القادم من جبال الباسك والذي لم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة الفرنسية، وكذلك نابليون بونابرت الكورسيكي الأصل، الذي كان يفضل التحدث بلغته المحلية مع أهل بيته. ‏

عندما صمم المهندس المعماري الشهير مخطط توسع باريس واضعاً هذا النمط العمراني الفريد من نوعه لها، سأله أعيان البلاد عن سبب إصراره على هذا الكم الهائل من الجادات العريضة جداً، وأرصفة المشاة المبالغ في رحابتها. فأجابهم: سيأتي على هذه المدينة يوم، يخترع فيه سكانها وسائط نقل أكثر تقدماً من العربات التي تجرها الخيول، وسوف يحتاجون لمثل هذه الشوارع لاستيعاب وسائط نقلهم، وسوف يعرفون بأننا كنا سابقين لعصرنا بمئات السنين، فكان ان تم إقرار مخططه الضخم من دون أي تعديلات عليه.

الزائر لأي عاصمة في العالم يشعر عندما تطأ قدماه أول شارع فيها، بجفاء المدينة عنه، وبالحاجة الماسة لفرد من أهلها يخفف عنه وطأة التمنع التي تبديها كل المدن الكبرى في وجه زائريها للوهلة الأولى، إلا باريس، فهي تشعرك وأنت تلج أول أبوابها «بورت دو فيرساي» من ناحية الجنوب، قادما من مطار أورلي، بأنها على موعد معك، تنتظرك، وأنها لك، كما هي للجميع. ‏

قد أكون منحازاً الى حد ما في مشاعري تجاه هذه المدينة التي تنشقت، طيلة سنوات، عبق أزهار الجلنار الحمراء التي تزين نوافذ معظم أبنيتها لكن ماذا في إجماع معظم من التقيت هناك من سوريين وسواهم، أو من عاد إثر زيارة قصيرة منها، والذين يعبرون على اختلاف جنسياتهم وثقافاتهم، عن انطباع مشترك فيما بينهم: الألفة الغريبة التي يشعر بها الزائر مع المكان والسكان. ‏

ولأن باريس تستحق وصفاً وانصافاً أكثر مما ذكرت، فهي بنهر «السين» الذي يخترقها عرضاً بفرعيه كبحر من المياه العذبة، النقية الصالحة لكل مكونات الحياة المائية من أسماك متنوعة وغيرها، وبعظمة قصورها ونمطها العمراني، وشوارعها الرحبة، ومتاجرها الجميلة، ومقاهيها الأنيقة ومسارحها، ومعارضها الفنية الدائمة على مدار السنة، تقدم لك مشهداً متجدداً من الحياة، قد لا تضاهيها فيه أي عاصمة أخرى في العالم. ‏

سألني الصديق حسن خير الله، وهو يعمل في قطاع السياحة بداية العام، عن أفضل الأوقات لزيارة أوروبا، فقلت له، شهر حزيران، لأنه يعادل في اعتدال طقسه فصل الربيع في بلادنا، لكن ظروف عمله اقتضت ان يقوم بجولته على العديد من العواصم والمدن الأوروبية بدءاً من شهر نيسان، حتى مشارف حزيران. ولدى عودته، لم يحدثني بشيء عن لندن التي قضى الوقت الأطول فيها، ولا عن برلين أو روما. بل عن أجمل أسبوع قضاه في باريس، مؤكدا بحماسة واضحة انها المدينة الوحيدة التي تحفر في الذاكرة صوراً لا تنسى وعبقا انسانياً يرافق من يزورها مدى العمر.«أنت لا تشعر بأنك في عاصمة أوروبية كبرى فحسب. بل في عاصمة عالمية لكل الثقافات والأديان والحضارات. إنها عاصمة الكون بامتياز». هكذا اختتم صديقي حسن العائد منها حديثه وهو سارح الخيال يستذكر كل تفصيل مما رآه أو عايشه بأحاسيسه خلال أسبوع واحد من الزمن. ‏

عندما يحل شهر رمضان على العالم تلبس باريس في أحياء واسعة منها حلة مميزة تشبه الى حد كبير الدار البيضاء، وتونس ووهران واسطنبول وتتحول هذه الأحياء التي تقع في الجانب الشرقي منها بدءاً من الدائرة الحادية عشرة، في حي «بلفيل» و«القطرة الذهبية» وصولاً الى الدائرة الثامنة عشرة حيث يقع حي «باربيس» الشهير، والى الشمال منه حي «كليشي»، حيث تتمركز الجالية العربية والمسلمة بشكل كبير فيها. ‏

تزدان المحال التجارية على امتداد هذه الأحياء بشكل لافت للنظر، وتتحول طيلة الشهر الفضيل الى شبه مهرجان للتسوق اليومي، تكتظ فيه الشوارع الرئيسية والفرعية على حد سواء، خصوصاً في الساعات الأخيرة من النهار، تتعرف الى كل جالية من أصناف الأطعمة الجاهزة المعروضة على الأرصفة. ‏

«الطاجين» المؤلف من لحوم مسلوقة بعمظمها مع الخضار والفاكهة المجففة في أوعية فخارية على نار هادئة يدلك على المغاربة. والكوسكوس وان كان يتقاسمه جميع سكان المغرب العربي إلا أنه جزائري بالدرجة الأولى. وأما الأحياء التونسية فتتميز بمقالي الزيت التي تكتظ بها الأرصفة لتحضير البابريكة وغيرها من الحلويات التونسية التي يصرخ عليها الباعة بخليط من الكلمات العربية والفرنسية. ‏

وعند الساعة الأخيرة من الصيام تصل كما في كل يوم حافلات النقل الضخمة العائدة للجمعيات الخيرية الاسلاميةتنصب الموائد المتنقلة على طول الشوارع الفرعية في عمق تلك الأحياء ثم تملؤها بالمناسف ومالذ وطاب من الفواكه والحلويات، فيشترك في تقاسم تلك الأطعمة كل محتاج بغض النظر عن ديانته فتمتزج الأعراق على موائد الرحمن ويتقاسم «الخبز والملح» الفرنسي وغير الفرنسي الفقير مع نظيره المسلم الفقير، ويتعرف هؤلاء طيلة الشهر الفضيل الى الاسلام من بوابة أخرى خارج الدعاية الاعلامية المعادية لتخرج باريس في نهاية شهر رمضان، وفي صباح عيد الفطر من كل عام، معلنة للملأ بأنها مدينة التسامح وفيها تتعانق الحضارات

سعيد هلال الشريفي
(126)    هل أعجبتك المقالة (121)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي