أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

كيف خان الأسد قريتنا؟.. علي عيد

أرشيف

كنت أحد أبناء الجيل الذي ولد في عهد حافظ الأسد وعاش شعاراته عن العروبة والوحدة والحرية والاشتركية، حقيقة لم أكن مقتنعاً في أعماقي حتى عندما كنت طفلاً بهذه الشعارات، كنا نعيش تناقضات بين الشعار والحقيقة، فقريتي التي كنت أعيش فيها كانت تقف على "رجل واحدة" أمام رئيس مفرزة المخابرات السياسية، رغم أن رئيس المفرزة ذاك كان قصير القامة وقبيح المشهد ولا يحمل أية صفة تنتمي إلى هيبة الرجل التي يتمتع بها والدي وأقرانه من رجال القرية الذين كنت أستغرب خوفهم من ذلك المسخ.

عموماً ومع قناعتي بوجود خلل ما في تركيبة وعقائدية ما كنا نعيشه وقتها، إلا أنني لم أتمكن من بناء مفردات سياسية أو وعي اجتماعي خارج إطار تلك المؤسسات المنغلقة التي حكمت حياتنا وأغلقت منافذ الوعي علينا بإحكام.

شيئاً فشيئاً بدأت تتراكم في ذهني أسئلة حول مظلة العروبة وحقيقتها طالما أننا في ذلك الوقت (الثمانينيات) كنا نشهد موجة اعتقالات في مختلف أنحاء البلاد لأشخاص يتهمون بالعمالة للعراق، فيما كنا نستمع لخطب الأسد المتخمة بالعبارات المفخّمة عن العروبة والتمسك بالانتماء إليها، ولم يكن خافياً ميل الريف السوري إلى العراق خلال حربه مع إيران في تلك الفترة.

مع مطلع التسعينيات اتضح لي أنني أعيش مع أبناء جيلي حالة "الشبيه" فكل شيء في حياتنا هو شبية بالحقيقة، المنظمات، الأحزاب، كرة القدم، الفن والثقافة، وحتى الوجوه، كان كل شيء موارباً، وكنا نتغنى بالوحدة الوطنية والتعايش ولكننا نخفي حقيقة أننا نعيش ضمن مزرعة سيّجها الأسد ونظامه البعثي بسور شاهق، وحتى بعد موت الأسد الأب جاء ابنه بشار وزاد على تركة الشعارات الفضفاضة التي أجبر الناس على ابتلاعها في عهد أبيه بأن حوّل البلاد إلى شركة يملكها ويديرها أفراد من العائلة الحاكمة، وانتقلت حالة التوحش السياسي إلى توحش سياسي اقتصادي، وبغطاء حضاري قوامه رئيس طبيب يعرف كيف يلبس ويضع يده بيد زوجته ويتمشى في شوارع المدن الأوروبية، فيما لا تبخل علينا كثير من المجلات بغلاف للسيدة الأولى وهي ترتدي أرقى الماركات العالمية.

قبل فترة التقيت في فرنسا أحد السوريين الذين تركوا البلاد منذ نحو ربع قرن، تحدثنا في السياسية ليخبرني بأنه من الأشخاص الذين تم زجهم مع لواء عسكري إلى إيران للقتال مع قواتها ضد الجيش العراقي في ثمانينيات القرن الماضي، صعقتني المعلومة إذ كنت أجهلها، لكنها فسرت الكثير من الافتراضات التي كنت عاجزاً عن إثباتها بالدلائل المادية، وكادت أن تأخذني مذكرات نائب الرئيس السوري السابق ووزير الخارجية في عهد الأسد فاروق الشرع، حيث أسهب كثيراً في محاولته إيصال فكرة أن الأسد لم يكن يميل إلى إيران ضدّ العراق بقدر قناعته بأنها ليست عدواً للعرب، لكن المذكرات التي حملت عنوان "الرواية المفقودة" مهما كان الظرف الذي كتبت فيه أغفلت حقائق تغيّر مسار فهمنا للأسد، ومنها حقيقة دعم إيران عسكرياً ضد العراق.

ربما نستطيع اليوم فهم سياسة نظام الأسد الأب ووريثة الإبن في ضوء علاقتهما بإيران، إذ يبدو أن جرعة العروبة الزائدة في خطابهما السياسي هي ناتج إحساس عميق بخيانة العروبة، والسير بعكس مصالحها، ولعل تمسك إيران اليوم بالأسد وقتالها إلى جانبه بل أمامه، هو تعبير حقيقي عن أن فكرة "الشبيه" هي حقيقة تتجلى في شعارات "البعث" ومفرزاته، في الوقت الذي تضرب فيه إيران بمخالبها في عدة دول عربية كما هو حاصل في اليمن والبحرين والعراق والكويت، فإيران تهاجم بمشروع مذهبي قومي، وهذا يتعاكس مع العقائدية الكاذبة لنظام الحكم في سوريا.

ليس صعباً بعد كل هذا فهم طبيعة النظام السوري، ومن الخطأ تفسير مشاركته في التحالف الدولي لتحرير الكويت بأنه تعبير عن عروبته بل هو اصطفاف يمكن قبوله على أنه مصلحيّ، وبالتالي يمكن الرجوع إلى حقيقة أن حافظ الأسد حارب الزعيم ياسر عرفات وشق صف منظمة التحرير، وأضر بالقضية الفلسطينية أكثر من إسرائيل، وحارب العراق وزرع الجواسيس داخله لمصلحة إيران، واستقبل قيادات ميلشيوية مذهبية حكمت بغداد لاحقاً بعقل طائفي، كما أنه سلّم قيادات عربية من الأهواز لإيران.

لن أدخل في تفاصيل الحرب التي يخوضها بشار الأسد على السوريين الذين استلبهم ووالده لخمسة عقود، ومن المستحسن الابتعاد عن المقاربة العروبية في المأساة السورية، لأنها تعكس خيانة نظام دمشق لفكرة الوطن، وتلاعبها بشعارات التعدديّة والتنوع وإلا لما أنتجت حربه صراعات ذات طابع قومي وعرقي ومذهبي.

لقد خان الأسدان قريتنا، وهي التي دبكت وغنت لهما أكثر مما غنّت ودبكت في أعراس أولادها، خاناها في العروبة، وفي الوطنية، وفي الاقتصاد، وفي العرق والمذهب والدين، وختما الخيانة بقتل وجرح وتهجير شبابها، كما قتلا حبّهم للعرب والعروبة التي جلدت شعاراتها أسماعهم وأبكت عيونهم لعقود. 

مع ما سبق هناك من القومجيين العرب من لازال يرى في نظام الأسد حاملاً عروبياً، ولعلّ هؤلاء ومنهم كتّاب وصحفيون يحملون ذات فكرة "الشبيه" التي أجبر عليها أبنا جيل كامل في سوريا، فهم ضائعون أو مضللون في أحسن الأحوال، ولا ندري إن كان هذا الضياع بإرادتهم أم أنه مدفوع الثمن.

أخيراً .. ليس غريباً أنني أجهل إرسال حافظ الأسد لجنود سوريين إلى إيران الفارسية لمحاربة العراق العربي طالما أن هناك محطة أخبار عربية تبثّ ـ بقناعة ـ أخباراً عن منظمة تسمى "جامعة الدول العربية".

(183)    هل أعجبتك المقالة (176)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي