كانت الحكومة التركية قد قررت عدم تغيير التوقيت في الوقت المتعارف عليه عالمياً، وأجلته إلى يوم الأحد الذي يلي يوم الانتخابات، حتى لا تشوش الناخب التركي الذي اعتاد على التوقيت الصيفي.
ولما لم أستلم إشعاراً من شركة الطيران بأي تغيير، فقد قرأت الأمر على أن موعد طائرتي بقي ثابتاً، أي في الثالثة من بعد ظهر الأول من تشرين الأول، فكنت في المطار بصحبة وفد رسمي من الأصدقاء في الثانية عشرة ظهراً.
في الثانية والنصف كنت داخل الطائرة مع أغلبية الركاب، وانتظرنا إقلاع الطائرة، ولكنها لم تتحرك حتى الرابعة، ما يعني أن الشركة التركية التزمت بالتوقيت الشتوي العالمي رغم إعلان الحكومة عدم تغييرها للتوقيت، ما يعني العمل بتوقيتين في الوقت نفسه، وهذا ما يلقي الضوء نسبياً على براغماتية حزب العدالة والتنمية في تعاطيه بشكلين مختلفين مع الداخل التركي والخارج العالمي.
كان رحلتي من مطار «كمال أتاتورك»، مؤسس الجمهورية التركية، إلى المطار الكندي «بيير إليوت ترودو» صاحب الشعار الشخصي الشهير "العقل قبل العاطفة"، وصاحب السياسة الأبرز في الحفاظ على الوحدة الوطنية الكندية من سياسات الانفصاليين الكيبيك، وتأسيس ميثاق الحقوق والحريات بالدستور الكندي.
قد تكون المصادفة وحدها ما يجمع بين اسمي المطارين والمدينتين، من حيث عظمة الشخصيتين، وأسلوب الانتخابات الديمقراطية التي حدثت في البلدين في وقت واحد تقريباً، رغم الاختلاف الظاهري الكبير في اسمي الحزبين المنتصرين، وفي توجهيهما السياسيين.
وأنا في الطائرة كانت نار الانتخابات النيابية التركية موقدة، بينما جرت الانتخابات الكندية قبل أسبوعين، وأوصلت جوستان ترودو، ابن العائلة السياسية المعروفة، إلى الحكم.
في الطائرة، كنت أتساءل: هل تستطيع كندا استعادة وجهها الحيادي ودورها السلمي في النزاعات الدولية بعد سياسة حزب المحافظين المنحازة إلى ما كانت تنحاز إليه إسرائيل، وهل تستطيع أن تعود، كما كانت، من حملة أعلام حقوق الإنسان قولاً وفعلاً، بعدما أصاب هذه الأعلام ودعاتها من تشوهات؟
بقي السؤال الكندي معلقاً في انتظار رؤية السياسات الجديدة التي رسمها الحزب الليبرالي الكندي في برنامجه الانتخابي، والذي اختاره الناخب الكندي بناء عليه.
أما السؤال التركي الذي سيحسم كثيراً من أسئلة الشرق الأوسط، فقد كان الأتراك منهمكين فيه، وكنا نحن السوريين المقيمين في تركيا وخارجها نعيش على إيقاع أقدامهم المتجهة إلى صناديق الاقتراع منذ السابعة والنصف صباحاً، حيث رأيت الناس من شباك غرفتي الاسطنبولية، أي قبل موعد افتتاح المراكز الانتخابية بنصف ساعة.
وكان السؤال: ماذا بعد هذا الحماس التركي المميز للمشاركة في الانتخابات (حجم الإقبال على التصويت تجاوز 87 في المئة)، وهل ستزداد أعداد قوارب المطاط المحملة بسوريين متجهين إلى اليونان، أم أن الحكومة التركية المقبلة ستغير وضع السوريين من «ضيوف» إلى لاجئين، مع كل حقوق اللجوء التي تضمن للإنسان حياة أقل قلقاً، وأكثر استقراراً؟
هل نتائج الانتخابات التركية ستؤدي إلى مزيد من الاستقرار في تركيا والإقليم والعالم، أم أنها ستؤدي إلى توترات كارثية على الجميع، وعلى السوريين في المقدمة؟
من الصعب معرفة مواقف العالم من نتائج الانتخابات بعد الفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية، خاصة أن هنالك رهانات دولية على خسارة الحزب داخلياً وخارجياً.
ليست عندي إجابات على تلك الأسئلة، ولكن المصادفة وحدها قدمت لي جواباً يساعدني على فهم العقلية التركية، وكيفية تعاطيها مع المحيط العالمي والمحلي من خلال حدث حقيقي هو التعامل مع توقيت إقلاع الطائرة باستخدام التوقيتين الصيفي والشتوي معا، الذي يحمل مضامين رمزية كثيرة.
في الختام، لست في موقع من يعطي النصائح لأحد، ولكن بحكم انتمائي إلى عالمين، هما الغرب (الكندي)، والشرق الأوسط الإسلامي (سوريا - تركيا)، أرى أن النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات التركية هي انتصار للمواطن التركي أولاً، الذي اختار الحزب الذي يراه معبراً عنه. وهي انتصار للديمقراطية ثانياً، وهي درس من الشعب التركي لأحزابه الوطنية، ملخصه: أنه هو من يعطي الحق لهذا الحزب بالحكم، وهو من ينتزعه، وهي دعوة للاستقرار الداخلي، إذا استطاعت قيادة حزب العدالة التعامل الإيجابي مع ممثلي الأتراك الذي خسروا المعركة الانتخابية.
أخيراً، الانتخابات التركية درس مهم أيضاً للغرب بضرورة إعادة النظر في تعامله مع العالم الإسلامي عامة، ومع قواه الناهضة حديثاً، عبر الدم والألم، كما هو واقع الثورة السورية التي استطاعت تحريك القيم الأخلاقية في الغرب، قبل أن تموت.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية