أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الأسد وفراخه.. لصوص "المكدوس"*

الكاتب: صنعت أجهزة النظام من الأسد إلهاً لا يجوز الاقتراب من شخصه بالنقد - أرشيف

قلبت في ذهني كل ما يمكن أن يكتب عن الثورات، حاولت الحصول على إسقاطات كما يفعل الشعراء فلم أجد مقاربة تقنعني لا في الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، ولا ثورة الزهور الجورجية، ولا حتى الإسبانية، ولا الثورات الفرنسية وصولاً إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث سقوط الباستيل وثورة "البدون كلاسين" التي رفضت تسليم باريس دون حرب.

وكلما تذكرت ثورة عظيمة بحثت عن خصمها لأقارنة ببشار الأسد ونظامه القمعي، ولا أكذب إن قلت إن الثورة السورية تتفوق في معاييرها ليس لجهة الخسائر والتضحيات، ولا لجهة أخلاقيتها ومناقبيتها، بل في مستوى الخصم وانعدام أخلاقه وذمامته.

في التاريخ استعانت الديكتاتوريات بالخارج لمواجهة خصوم من الخارج، أما في حالة سوريا فقد استعان النظام المافيوي بميليشيات مذهبية من أفغانستان ولبنان والعراق، واستعان بإيران، وأخيراً أحضر الروس ليقاتلوا السوريين، كيف كان هذا النظام يعيش ويتعايش مع الشعب، وما هي الأدوات التي استخدمها لإخضاعه طوال أربعة عقود قبل أن يخرج الناس عليه.

بعد اندلاع الثورة قال بشار الأسد في خطاب له إن ملايين السوريين باتوا يشكلون حاضنة للإرهاب، وقال أركان حكمه إن مقتل ثلاثة ملايين سوري لا يعني بالنسبة لهم شيئاً.

تدور في ذهني أسئلة كثيرة حول وسائل وسلوكيات التكيف التي كان يتبعها السوريون لكي يعيشوا ويربوا أبناءهم، ولكي لا تتخطفهم أفرع المخابرات، ولكي يضيع أثرهم حتى على "الذباب الأزرق" حسب التهديد الدارج في دولة الأسد.

نعم كنا نكذب ونوارب يا سادة، كان الكبير فينا يعتبر صداقته بأتفه أبناء الطائفة العلوية امتيازاً، وكان حتى الوزير يخاف عنصر المخابرات الذي زرعه له النظام خلف الباب، كان رئيس المفرزة في كل بلدة حاكماً بأمر الله، نعم كانت عناصر أجهزة المخابرات تنتمي لمختلف الطوائف، لكن طائفة واحدة كانت تحكم تلك الأجهزة.

صنعت أجهزة النظام من الأسد إلهاً لا يجوز الاقتراب من شخصه بالنقد، وبدأ هذا الإله يفرخ آلهة أصغر، ثم أصغر وهكذا حتى أصغر موظف تافه ينتمي إلى هذا المسار الظالم والقاتل.

عام 2008 تركت عملي في إحدى دول الخليج وقررت العودة إلى سوريا لأبدأ العمل في وكالة الأنباء الوطنية "سانا"، ويوماً بيوم اكتشفت أنني سأكون عبداً وضيعاً في وطني، عبداً للأسد بل لفراخه الذين انتشروا في كل مكان، كان مدير الوكالة والذي يعمل اليوم سفيراً للنظام في إيران يتحدث بلغة كلّيّة تقديسية عن طريقة التعامل مع أخبار الأسد، إذا لا ينبغي أن تحتوي مساحة الأخبار الرئيسية أي خبر إن كان الأسد قد استقبل أو ودع أو تحدث، لا رئيس الحكومة ولا الأمين المساعد لحزب البعث، كان المقصود إفهام الناس أن الأسد آلهة لا ينبغي مقارنتها بالبشر، وكان فرخ الأسد ـمدير الوكالةـ قد أنتج فراخاً أخرى في أقسام الوكالة.

كانوا فارغين حدّ القرف، يتقاتلون على استكتاباتهم إن انخفضت ألف ليرة، ومن لا يدخل معركة الاستكتاب فلأنه يعمل بنظام استثمار الوظيفة، هكذا كانوا في مختلف وسائل الإعلام حتى في المؤسسات الأخرى، ويعرف الصحفيون أن رؤساء تحريريهم لسنوات كان منهم من يلقبونه "أبو خمسمية" وهذا الذي أعني صاحب مدرسة بيع مادة في جريدة الثورة مقابل خمسمئة ليرة سورية، وهو رئيس تحرير عتيد من فراخ الأسد الذين أنتجوا فراخاً آخرين أصبحوا يمتلكون مواقع إلكترونية لجمع الإعلانات وتأليه الأسد.

عندما كنت أؤدي خدمتي الإجبارية حرمني فراخ الأسد علبة "الحلاوة" و"قطرميز المكدوس" الذي أعدته لي أمي قبل ذهابي إلى دورة الأغرار، وذات مرة أيضاً أرسلني الضابط إلى مكتبه لأحضر له علبة "سجائر" من الدرج "الفلاني" واستغربت كيف يؤمن على عسكريّ غرّ مثلي أن يدخل مكتبه، إلا أنني لم أجد "السجائر"، وعندما عدت وأخبرته نهرني قائلاً "في علبتين بالدرج يا جحش"، عدت وبحثت فلم أجد، وسألت أحد المجندين ماذا أفعل خوفاً من أن أعود فضحك وقال لي: بدو ياك تشتريلو علبتين .. روح عالندوة جيب العلبتين أحسن ما غضب الله ينزل عليك، فهمت... نفذت .. ولم أعترض إلا بعد آذار 2011.

أي خصم هذا الذي ابتلي به السوريون، خصم خرج على الناس يضحك حين اغتسلت شوارع درعا بدم شهدائها، خصم أطلق من سجونه المتشددين وسلمهم السلاح ليقول إنه يواجه إرهاب شعب، خصم سرق مال العباد ووضعه في حسابات بنكية ومشاريع يديرها مع أبناء عائلته في روسيا والصين ورومانيا ودبي وكازخستان، خصم ينام مع أطفاله وزوجته في قصر الشعب فيما 13 مليوناً من الشعب مهجّرون ونازحون ولاجئون ومعظمهم ينام مع أطفاله في العراء تحت خيم لا تقي برد الشتاء ولا حرّ الصيف، خصم يريد أن يقول إن السنّة الذين عايشوا كل المذاهب والديانات ألف عام دون أن تهتز قيمتهم الحضارية هم اليوم أساس الإرهاب الذي يهدد حتى روسيا، خصم يصلّي كل عيدٍ ـ كاذباًـ في دمشق ويهدم مساجد حلب وحمص، خصم يتحدث عن السيادة وتنقله روسيا مثل لصّ إلى موسكو.

لست متأكداً من شيء على الإطلاق سوى شيء واحد هو أن الأسد خصم خائن وعديم الأخلاق، وأن سوريا ابتليت به كما ابتليت بفراخه الذين لا نعلم كيف سنتعايش معهم بعد أن يرحل كبيرهم قريباً.

* علي عيد - زمان الوصل
(181)    هل أعجبتك المقالة (197)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي