أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ليس عند زاهر ما يخسره!.. ميخائيل سعد

طفل سوري يعبر الحدود الى تركيا - أرشيف

لن يخسر زاهر شيئا بعد كل ما خسره؛ خسر طفولته ومعها مدرسته، ثم خسر بيته وخسر والده، الذي بقي منه هوية أعادتها لهم مخابرات الأسد، ثم خسر وطنه وجاء إلى اسطنبول حيث يعمل كالعبد مع أمه من أجل دفع أجرة بيتهم ولقمة خبزهم.

ماذا سيخسر زاهر أكثر من ذلك إذا كره العالم كله، وقاتل الروس والإيرانيين وجنود الأسد حتى اللحظة الأخيرة من حياته؟!

لم أكن أبحث عن مأساة سورية جديدة كي أنقلها للقراء، فقد أضحى كل ما له علاقة بسوريا كارثة يعيشها أو يشاهدها الجميع من زاويته الخاصة، لذلك ابتعدت عن نقل الصورة المباشرة أو القصص التي تحكي المآسي اليومية للسوريين، ولكن لقائي بالطفل زاهر، الذي كان يمسح الطاولة التي جلست عليها مع أصدقاء، في محل لبيع الحلو السوري في اسطنبول، جعلني أغير رأيي، فقررت الكتابة عنه، ليس بسبب خصوصية قصته، ولكن بسبب ذلك الذكاء والحب الذي تبثه عيناه عندما يتكلم، وبسبب حركته السريعة أثناء القيام بعمله.

رأيت فيه جانبا من سوريا القادمة، أو ما يشبه سوريا، فرغبت في تسجيل هذه اللحظة علها تذكرني بنفسي وبسوريا بعد زمن ما.

في عمره، عام 1965 ذهبت إلى بيروت للعمل، فوجدت مكانا في مطبخ مطعم التيفولي في برمانا.
عرفت حينها أن من يقوم بجلي الصحون يُسمى "مرماطون"، فكنت مرمطون المطعم لمدة شهرين. 

أحد الأيام صفعني "شيف كرسونية" الساحة، يعني المسؤول عن خدمة الطاولات، لأنني رفضت القيام بعمل يخص "رجاله"، ناعتا إياي بـ"الولد السوري القذر"، فما كان مني، وأنا ابن الخامسة عشر عاما، إلا أن رديت الصفعة بأحسن منها. 

لم ينتابني الخوف، لأنني كنت قد كرهت حياتي بعد شهرين من العمل كل يوم من الظهر إلى فجر اليوم التالي، فكانت صفعة "الشيف" مناسبة كي أترك العمل والعودة إلى سوريا، محميا بفكرة أن دولة "البعث" في سوريا هي دولة الفقراء، وخاصة دولة كل من كان "مرمطونا" في لبنان أو في سوريا.

تذكرت نفسي ولبنان وسوريا عندما سألت "زاهر" عن عمره فقال: 15 سنة.
صدمني الجواب، فقد كنت أظن أنه في 12 من عمره، ولكن "قطعته" الصغيرة، ونعومة بشرة وجهه وطفولتيهما خدعوني، فأخطأت التقدير.

ذهب بفوطته، بعد أن نظف الطاولة، ثم حمل ما كنا قد طلبناه من حلويات، كنت مع محمد وشادي، وكان الأخير مصرّا على دعوتنا لتذوق حلاوة الجبن السورية في اسطنبول. 

سألت مرة أخرى "زاهر" هل تعمل كل يوم هنا؟ قال والابتسامة لا تفارق شفتيه: نعم، أبدأ في الساعة الحادية عشر صباح كل يوم وأنتهي في منتصف الليل.

قلت له: عطلتك الأسبوعية يوم الأحد؟
قال: لا يوجد عطلة أستاذ، العمل سبعة أيام في الأسبوع.

قلت له: لا بدّ أنك تعمل كثيرا لأنك تحب المال، وتريد أن تكسب كثيرا؟
قال دون أن تفارق البسمة شفتيه، مع لمعان سريع في نظرته: راتبي الشهري هو 500  ليرة تركية. ويجب تأمين أجرة البيت والبالغة 700  ليرة تركية في الشهر. ثم ذهب مسرعا عندما ناداه "المعلم".

عاد، فسألته: كيف تؤمن ما تبقى من أجرة البيت؟ 
قال: أمي تعمل في المطعم السوري الواقع في تلك الزاوية، وراتبها 900  ليرة شهريا، يعني مستورة أستاذ.

سألت: كم ساعة تعمل أمك في اليوم لقاء راتبها؟
قال زاهر: تعمل مثلي، كل يوم 12 ساعة، وسبعة أيام في الأسبوع.
غاب زاهر قليلا وعاد مع ثلاثة أكواب من الشاي فناوله صديقي محمد 20 ليرة، وأضاف عندما رأى الدهشة والاستفسار في عينيه، هذه لك. 
حاول أن يرفض ولكن محمد أكد له أنه يستحقها لقاء خدمته السريعة ولقاء لطفه.
قلت لزاهر إن عندي الكثير من الأسئلة، فأرجو أن لا أكون مزعجا في ذلك. قال: تفضل اسأل.

سألت: هل كنت في المدرسة عندما كنت في سوريا؟
قال: كنت في الصف السابع، عندما قصف النظام المدرسة.

قلت: منذ متى وأنتم في اسطنبول، ولماذا اسطنبول بالذات؟
قال: منذ ثلاثة أشهر، أحدهم أقنع والدتي بالقدوم إلى غازي عنتاب بعد أن خسرنا كل شيء في برزة، قائلا إنه سيؤمن لنا دخلا مناسبا للعيش، ولكنه اختفى عندما وصلنا، ولم نجد عملا نعيش منه، فقررت والدتي القدوم إلى اسطنبول بعد أن وعدها أحد أصدقاء المرحوم والدي بالعثور على عمل لنا، وقد وفى الرجل بوعده.

ماذا تتذكر من سوريا وأنت في تركيا؟
قال زاهر، وقد اختفت الابتسامة للمرة الأولى عن وجهه، أتذكر صورة والدي، وخاصة صورة هويته الشخصية عندما أحضرتها المخابرات لأمي، وقالوا لها: زوجك مات في السجن وهذه هويته.

كل يوم أحلم بالناس الذين قتلوا أبي ودمروا بيتنا، كل يوم أحلم أنني كبرت وانتقمت ممن قتلونا وجعلونا نترك بلدنا، كل يوم أحلم بالانتقام ممن ضحكوا علينا وقالوا لنا إنهم يساعدوننا لأننا أسرة أحد الشهداء، ولقد اكتشفنا كذبهم، فقد اختفوا عندما أصبحنا بحاجة لهم.

تذكرت دولة "البعث" التي كنت أعتقد وأنا في عمر 15 أنها هي "سندي"، عندما كنت "مرمطونا" في لبنان عام 1965، وأنها كانت مع الفقراء، تذكرت هذه الدولة "البعثية" التي تقتل الآن السوريين الفقراء، وتهدم بيوتهم وتغتصب نساء الفقراء منهم بشكل خاص، كل ذلك لأنهم يريدون العيش بكرامة وحرية، يريدون فقط إلغاء "شيف" الخدم، وإنزاله عن أكتافهم.

عندما خرجنا من محل الحلويات، تقصدنا أن نمرّ من أمام المطعم السوري، فشاهدنا امرأة شابة وحيدة فيه تمسح الأرض بين أقدام الزبائن، وأغلبهم سوريون "مناضلون" بلحى ودون لحى.
وتساءلت متى سيكبر "زاهر"، وهل حقا لن يكون عنده ما يخسره عندما يكبر؟!

(146)    هل أعجبتك المقالة (137)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي