لم تكن الجغرافيا، في أي يوم منفصلة عن السياسة، لذلك يمكننا اعتبار سوريا هي نقطة الصفر في السياسة الدولية الحالية؛ فشرقها إيران وشمالها تركيا وروسيا، وغربها إسرائيل وأوروبا وجنوبها الأردن رالسعودية، أما الولايات المتحدة الأمريكية فتحيطها من جميع الجهات، لذلك فلا يجري شيء على سطح سوريا وفي أعماقها إلا بعلم «أبونا» الذي في السموات (الولايات المتحدة).
جعلتني الهزة الأرضية التي أحدثتها تفجيرات أنقرة يوم السبت العاشر من هذا الشهر، أهيم على وجهي في شوارع اسطنبول باحثا عن نقطة تجعلني أشعر بالأمان بعيدا عن الأماكن المنخفضة والطرية في المدينة، فأنا أحتاج إلى أرض عالية وصلبة تدخل الطمأنينة إلى روحي، التي زعزع استقرارها منذ ما يقارب السنوات الخمس الزلازل السورية الناجمة عن الانفجارات التي أحدثتها وتحدثها الصواريخ محلية الصنع وتلك العابرة للقارات، فجاءت انفجارات أنقرة لتزيد من قلقي الروحي.
بعد ساعات من السير وصلت إلى إحدى تلال اسطنبول حيث يوجد جامع السلطان أحمد، الذي بناه المهندس محمد آغا بين عامي 1609 -1616م، وبقربه متحف آيا صوفيا الذي كان كنيسة بيزنطية كبيرة، وقد بناها الامبراطور قسطنطين الكبير سنة 325م، وغير بعيد قصر الباب العالي أو "توب كابي"، وهو مركز إقامة سلاطين الدولة العثمانية لأربعة قرون من عام 1465م إلى 1856م.
كانت كدمات روحي قد مالت للزرقة عندما وصلت إلى ساحة السلطان أحمد، وقدماي قد تورمتا من السير عدة ساعات فقررت الدخول إلى الجامع، خاصة وأنه يكون شبه فارغ بعد صلاة الظهر، لأستريح، فلعل لون السيراميك الأزرق البارد، الذي يغطي جدران الجامع يهدىء من روعي، بالإضافة إلى أجواء الإيمان التي تشع في المكان وتدفع الناس للإيمان بقدرهم المكتوب، وقد يكون في صلابة وضخامة الجامع واستمراريته عبر هذه القرون، وقوة التاريخ وتنوعه، ما يقوي من عزيمتي، ويعيد التفاؤل الى نفسيتي بعد زلزال انقرة وقبله زلازل سوريا.
أمضيت بعض الوقت متسكعا في ساحة السلطان أحمد، متخيلا نفسي مواطنا عثمانيا أو رومانيا أو بيزنطيا يمضي وقته في مشاهدة سباق الخيل (هبودروم)، كما كانت تُعرف الساحة أيام الدولة الرومانية، حيث قادتني قدماي إلى عامود حجري اسمه «حجر المليون» فتوقفت لأقرأ «هو نقطة البداية لجميع الطرق الأثرية التي وصلت إلى مدينة قسطنطينية في الامبراطورية الرومانية الشرقية من روما.
كما أنه نقطة الصفر التي يتم استخدامها في حسابات المسافة بين هذه المدينة ومدن العالم الأخرى، وهو يوفر نفس الوظيفة التي يقوم بها نصب آخر يقع في مدينة روما باسم "ملاريوم أوريوم».
ويعتقد أنه تم تشييده في روما الجديدة (القسطنطينية) بأمر من الامبراطور قسطنطين الأول في القرن الرابع الميلادي".
مع دخول محمد الفاتح إلى مدينة القسطنطينية عام 1453، غيّر اسم المدينة إلى اسطنبول، ولكنه جعلها مع خلفائه عاصمة العالم كما قال عنها نابليون "لو كان العالم بلدا واحدا لكانت عاصمته إسطنبول بلا منازع"، وبقيت هي «نقطة الصفر".
«تعتبر ساعة غرينيتش في لندن "نقطة الصفر" اليوم، ولكن ربما قليلون هم الذين يعلمون أن ساحة سلطان أحمد كانت قبل 116 عاما هي نقطة الصفر وذلك على مدى 1500عاما، حيث كانت القسطنطينية عاصمة البيزنطيين والرومان وبقيت كذلك حتى عام 1884 حين كان هذا الحجر مركزا للأرض، حيث كانت إسطنبول نقطة البداية أو نقطة الصفر، تُقاس مواقع كل البلدان الأخرى بحساب بعدها عن إسطنبول.
وهكذا أصبح العالم يقسم إلى قسمين، فاسطنبول هي نقطة الصفر وهناك شرق وغرب، فهي وعلى مدى قرون كانت مركز السياسة والتجارة والعلوم، وبناء على نقطة الصفر فيها كانت الاتجاهات تتحدد، ولكن تراجع قوة الامبراطورية العثمانية وصعود قوة الامبراطورية البريطانية ساهم في نقل نقطة الصفر إلى "غرينيتش" اللندينة.
تفجيرات أنقرة أعادت إلى ذاكرتي القلقة أهمية "نقطة الصفر" أو مركز العالم، ولكن هذه المرة ليس بمعنى القوة العسكرية أو الاقتصادية أو القوة البشرية وإنما بمعنى قوة الأفكار وأثرها في العالم.
فدماء العالم أصبحت بحاجة إلى تجديد وكذلك أحلامه، فكانت الثورة السورية الديمقراطية بشعاراتها السلمية والمدنية، وانخراط العدد الكبير من السوريين فيها هي نقطة الصفر الجديدة بالنسبة للعالم كله دون مبالغة، فشرق سوريا تقع إيران المتحالفة مع نظام الاستبداد الأسدي، وقد رمت بكامل ثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي لمحاربة الثورة السورية، لأن نجاحها سيكون موتا للمشروع الفارسي الحديث في بناء قوة إقليمية لها وزنها، وتقليصا للايديولوجية الدينية التي ترفعها، في العراق ولبنان واليمن وغيرها من المناطق.
والثورة السورية الديمقراطية بالنسبة لجنوبها الأردني والسعودي والخليجي هي تهديد للعروش والإمارات، ومثل يحتذى لشعوب المنطقة.
وبالنسبة للغرب فديمقراطيتها وسلميتها هما الخطر الأكبر على إسرائيل، التي تود البقاء "الواحة الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط.
ووجود دولة ديمقراطية سوريا يحكمها شعبها ستكون من أولى مهامه الوطنية تحرير أراضيه المحتلة، لذلك كانت الثورة السورية الديمقراطية خطرا حقيقيا على إسرائيل، وعلى حزب الله اللبناني-الإيراني، وعلى كامل النظام اللبناني، لذلك كان لا بد من القضاء على الثورة السورية وعدم السماح لها بالانتصار.
والثورة الديمقراطية السورية كانت أيضا مشكلة بالنسبة لجارتها الشمالية المباشرة تركيا، فتركيا كانت ولا تزال ترى في جارتها الجنوبية الصغيرة سوريا جزءا منها، وجاء حزب العدالة والتنمية، الذي يعمل على إحياء الإسلام العثماني ليرى في سوريا المكان الأقرب لتمدده العثماني، فكان نجاح الثورة الديمقراطية السورية إنهاء لحلمه السوري الإسلامي، وتشجيعا للشعب التركي على متابعة إنجازاته الديمقراطية وتعميقها، وهذا ما لا يناسب أحلام قيادة حزب العدالة التركي، فكانت أن ساهمت تركيا في إضفاء الطابع الإسلامي على الثورة، ما أفقدها شموليتها السورية وبالتالي ضعفها، دون أن ننسى صراعها الخفي الديني والقومي مع اللاعب الإيراني المتواجد بقوة على الأرض السورية.
أما بالنسبة للجار الشمالي الروسي والغربي الأوروبي، والأمريكي الأبعد على خطوط الطول، فكان لكل من هؤلاء خططه الخاصة "لشيطنة" الثورة الديمقراطية السورية، ودفعها باتجاه ما خطط له نظام الأسد من تسهيل الحصول على سلاح "غير فتاك" وأسلمة، وصولا للقضاء على ثورة من أنظف ثورات الأرض، إما مباشرة كما تفعل روسيا وإيران، أو بطرق غير مباشرة كما تفعل دول الغرب عبر عملائها العرب على الأرض السورية، والهدف النهائي هو تحويل سوريا إلى "صفر سلبي" بالنسبة للسوريين أولا وللآخرين ثانيا.
أخيرا لا بد من القول إن الانفجارات، في أنقرة وفي غيرها من المدن التركية، هي رسائل واضحة للأتراك، المنشغلين بالمسألة السورية إيجابا أو سلبا، وفيها تهديد وتذكير قبل الانتخابات القادمة، وبأن ما "قال رئيس بلدية إسطنبول "قادر توبّاش" إن الهلال الموجود على قبة السلطان أحمد وحجر الصفر الموجود في ساحة آية صوفيا هما نقطة الصفر اللتان ترسم الخرائط على أساسها وتصحح الساعات بموجبها وتحدد الاتجاهات انطلاقا منها" لا يمكنها ان تكون، كما كانت سابقا، وأن نقطة الصفر على خريطة العالم، موجودة الآن في مكان آخر، وعليها أن تقبل بذلك!
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية