عندما قرأت تصريح البطريرك الروسي ورأس كنيستها الأرثوذكسية في دعمه للرئيس بوتين في حربه على الشعب السوري، والتي أطلق عليها اسم «الحرب المقدسة »، تذكرت «البارحة»، عندما كان بوتين نفسه، رجل المخابرات، الذي ينفذ أوامر السلطة السوفيتية بمنع الناس من ممارسة طقوسهم الدينية وإغلاق الكنائس. وتذكرت سوريا ونظامها الإرهابي.
فقد يكون من باب المصادفة فقط أن خبيرا روسيا كان يعمل في حمص، في ثمانينيات القرن الماضي، قرر أن يستجيب لنداء إرث أسلافه، ويتجاوز الخطوط الحمر لحكومته الشيوعية وأن يتنصّر، وكان موقع مكتبتي قد ساهم في كسر تلك الخطوط دون إرادة.
كانت المكتبة تقع في الحي المسيحي بحمص، فبجوارنا الثانوية الغسانية، التي كانت تعرف قبل تأميم المدارس، بالكلية الأرثوذكسية. وغير بعيد عنا دير الآباء اليسوعيين ومقر مطرانية الروم الارثوذكس، وبعدها بقليل كنيسة أم الزنار، وهي مقر مطرانية السريان الارثوذكس. وكانت مكتبتي تسكن أصلا في وقف كنسية الروم الكاثوليك، والتي تم تدمير وتهجير سكان هذا الحي المسيحيين بفعل قصف قوات النظام الأسدي له ولكنائسه.
عدت إلى المكتبة صباح اليوم التالي لرجوعي من إحدى سفراتي إلى بيروت، التي كانت تتكرر أسبوعيا، لأجد والدي منهمكا، على غير عادته، بشؤون كنسية، فاستوضحت الأمر منه، وإذ به يطلب مساعدتي، بعد أن فشلت مساعيه لدى أحد الخوارنة عندما طلب منه خدمة خاصة.
كان والدي يعرف أن لا صلات دينية تربطني بالكنائس وطقوسها، ولكن كانت لي صداقات شخصية مع بعض رجال الدين المسيحي والإسلامي، قال لي: جاء إلى المكتبة، في غيابك، خبير روسي يعمل في حمص، يتكلم العربية، ويبلغ الأربعين من العمر، يبحث عن خوري أرثوذكسي كي يعمّده، وأنت تعرف أن هذا ممنوع في روسيا، ولكن الرجل ابن أسرة مسيحية أرثوذكسية، ويريد أن يتابع طريق الإيمان كأهله، وقد تكلمت له مع الخوري عيسى الذي رفض إجراء العمادة دون موافقة المطران، كي يرفع المسؤولية عنه.
لهذا انتظرناك حتى تعود، وتطلب من صديقك المطران الموافقة على إجراء العماد لهذا الروسي، فقد تكسب حسنة تفيدك يوم القيامة.
لم أدخل في نقاش مع والدي، فهو لا يعرف أن المخابرات السوفيتية والسورية تراقب كل خبير يعمل في سوريا، وأن تقديم العون «الروحي» إلى هذا الشخص قد يؤدي بنا الى «جنة» المخابرات، حيث لا تنفع كل حسنات الآخرة؛ سواء كانت أرثوذكسية أو كاثوليكية، في تخفيف ألم جلسة واحدة على «كرسي ألماني».
ورغم احترامي لمعتقدات الآخرين إلا أنه لا يهمني، لا من قريب ولا من بعيد، أن يتنصّر أحدهم أو أن يُسلم آخر، لذلك قلت لوالدي: قل لصديقك الروسي أن يبحث عن غيرنا كي يعيد له «أرثوذكسيته» المفقودة!
ولنقص في خبراتي السياسية، ولقلة إيماني، أو ربما لانعدام ذلك الإيمان، كانت خيالاتي غير قادرة على استشفاف المستقبل المجهول وقراءة تحولات بوتين الإيمانية، وعودته إلى حضن الكنيسة الأرثوذكسية، وإلا لكنت قد ساهمت في الدفع باتجاه عودة الشعب الروسي إلى الكنسية الروسية التي كان قد مضى على هجرانها وإغلاق أبوابها في وجه المؤمنين ما يقارب السبعين عاما، من خلال تسهيل تنصير «أحد أصدقاء» بوتين، ولكن أنّى لي أن أعرف وأنا لا أملك بصيرة وإيمان الراهب «راسبوتين»، ولا قدراته العجائبية على شفاء المعتوهين والمصابين بالصرع، أو على معالجة عقم النساء بالحجب والصلوات.
لكل ذلك أعترف الآن، بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا، بأن قراءتي السياسية كانت قاصرة وأحادية الرؤية، وأنني في هذا، الابن الطبيعي لمعارضتنا الجليلة «المؤمنة»، التي لم تعرف كيف تدافع عن رغبة شعبنا في نيل حريته والانعتاق من ربقة الاستبداد الأسدي.
ولكن فات «راسبوتين» الكنسية الروسية أن حربه «المقدسة» ستفضي إلى عكس ما تصبو إليه، فهي ككل الحروب «المقدسة» التي مرت طاحنة تحت أقدام جنودها «المقدس» قبل غيره، كما فعل جنود الحملة الصليبية الرابعة عندما احتلوا القسطنطينية عام 1204، وما قاموا به من تدمير للمقدسات الأرثوذكسية وقتل ونهب واغتصابات، ما أدى في النهاية إلى تعرية الأمر الإلهي المزعوم وإسقاط القدسية الدينية عن تلك الحملات، وهذا ما سيحصل في سوريا، فالتدخل الروسي «المقدس» سينهي الوجود المسيحي الأرثوذكسي في سوريا، بعد أن أدى التهاون الغربي مع الأسد إلى ذبح السوريين وتهديد الوجود المسيحي الكاثوليكي وغيره.
أما السيد بوتين فسيعرف بعد فوات الأوان أن حربه «المقدسة ضد الإرهاب» سترتد عليه، وعندها لن يجد من يرفع صوته مدافعا عن قذارته الروسية أو الأرثوذكسية أو عن امبرياليته الحمراء المستحدثة.
بقي علي واجب «تطمين» الأقليات السورية عامة والمسيحيين منهم بشكل خاص، ممن يرفعون عقيرتهم في الترحيب بالمحتل القاتل الروسي، بأن ما سيدفعونه لقاء ذلك سيفوق تصوراتهم، وقد يكون أكثر مما دفعه أرثوذكس القسطنطينية على يد الصليبيين.
وأحب أن أذكر الجميع بنتائج الدراسة الجادة التي أنجزها الدكتور فيكتور سحاب منذ عقود، والتي تشير بالوثيقة والدليل أن مسيحيي الشرق كانوا يدفعون أثمانا باهظة على إثر كل عدوان غربي باسم الدين المسيحي للسيطرة على بلداننا بحجة حمايته من «الإرهاب» الذي يتغير مضمونه حسب تطور الحاجات الدولية للسيطرة.
أخيرا.. علمت أن القوات الروسية قد تمركزت في قلعة الحصن، تلك القلعة السورية التي قاومت الغزاة، وها هي تجهز نفسها لتكون قبرا للقوات الروسية. وأعرف أن هناك حكمة قديمة منقوشة على أحد جدران القلعة ومكتوبة باللغة اليونانية، قد يكون من المفيد نقلها إلى القيصر الروسي وإلى كاهنه الأكبر، فسلوكهما المتعجرف سيذهب بكل الحب الذي كان يكنه الشعب السوري إلى الشعب الروسي، تقول الحكمة: "إذا مُنحت النعمة، ومُنِحت الحكمة وفوقها الجمال. لا تدع التعجرف يقترن بها لأنه يذهب بها جميعاًَ".
*ميخائيل سعد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية