أثناء مشاهدة بقايا معبد بل في تدمر بعد نسفه على يد "داعش"، تذكرت حواراً مع أمين المتحف العراقي على إحدى الفضائيات عام 2007، كانت حينها حالة العراق شبيهة بما نعيشه اليوم في سوريا من تدهور، سألته المذيعة عن بوابة عشتار الموجودة في أحد متاحف برلين بألمانيا، ولماذا لاتطالب الحكومة العراقية باسترجاعها، وهي واحدة من آثار العراق الشهيرة الضاربة في القدم. كان رد أمين المتحف العراقي مفاجئاً، بل لا أنكر أني اتهمته حينها بالخيانة، وضعف الشعور الوطني، قال لها: ولماذا نعيدها؟ هي عندهم أفضل حالاً، فهم بنوا لها متحفاً خاصاً، وضعوها في مكان نظيف وجميل يليق بها بعد نقلها طوبة طوبة من العراق إلى ألمانيا، هم هناك لايقولون إن هذه البوابة ألمانية أو إنها جزء من تاريخ ألمانيا، هم يقولون هذه بوابة عشتار العراقية، نتاج حضارات بلاد الرافدين.
لو كانت عندنا ربما كنا فجرناها بمفخخة أو أقمنا بدلاً عنها دار عبادة أو نصباً تذكارياً لأحد القادة السياسيين.
اليوم، ومع الدمار المخيف الذي تشهده الصروح الأثرية السورية، ومع الأخبار التي تتحدث عن ظهور الآثار السورية في المتاحف العالمية، أو انتعاش دور المزادات على الأنتيكات الشامية في دول الجوار؛ يحضر كلام أمين المتحف العراقي مجدداً، ضاغطاً وصادماً بعدما تعرّيت من لبوس الوطنية المفلسة وانتفاخات القومية الزائفة.
فالمعارض أو المتاحف أو حتى المجموعات الخاصة التي تشتري هذه الكنوز لن تقول في يوم من الأيام: هذه لنا، نتاج أرضنا، ستبقى سورية، وسيبقى اسمها آثار من حضارات سوريا التي تغرق اليوم في بحر دم ودمار.
قد يبدو هذا الكلام ثقيلاً على البعض، كما كان ثقيلاً عليّ في 2007، ولكن بعيداً عن العواطف؛ إن بقاء كل ماله صلة بالحضارة البشرية في سوريا اليوم هو خسارة فادحة للبشرية جمعاء، الأمر شبيه بهجرة شبابنا إلى أوروبا، هؤلاء لو بقوا لطحنتهم الحرب، ولكنهم في مغترباتهم سيصنعون سورياتهم الجميلة الخاصة بهم، وسيبقى اسمهم "سوريون".
إن المصير الذي ينتظر التراث التاريخي المادي السوري قاتم بالفعل، فهو موزّع بين قصف متبادل وإحراق وتدمير وتفجير مقصود إما لاتهام الطرف الآخر بالهمجية أو تقرباً لله من قبل بعض الجماعات المتشددة أو بحثاً عن كنوز موعودة، ولا يمكننا بالطبع إقصاء إمكانية سعي جهات خفية ربما إلى مسح كل ما يمت بصلة للحضارة والأصالة في هذا البلد.
إن الآثار السورية هي نتاج حضارات بشرية متميزة في وقتها، ولذلك هي تستحق أن تصونها وتعتني بها أمم متميزة أيضاً لسنا منها الآن للأسف، لذلك ربما كان الأنسب أن تقوم الأمم المتحدة بنقل كل الموجودات السورية المكتشفة من الآثار إلى خارج البلد حتى نستفيق من بحر جنوننا ويتسنى لنا العودة مجدداً للمشاركة في بناء الحضارة.
قد ينظر البعض لكل ما سبق على أنه فضول من القول، وترف وتنظير تام، ليقرر الأمر برمته بالجملة الشهيرة: (البشر أولى من الحجر، والأرواح أهم من كومة مهترئة من الحجارة والأوراق الصفراء).
ذلك ليس صحيحاً مطلقاً، إن هذا الجواب الذي اعتدنا على سماعه دائماً هو ما يسعى عدونا من أجله تماماً، لاشك أن فقدان أي إنسان هو كارثة، ولكنها كارثة على الصعيد الشخصي أو العائلي يمكن تعويضها بافتراض الولادات الجديدة المستمرة، وتبقى آلام الفراق وأحزان الذكريات، ناهيك عن أن فقدان الأرواح على فداحته هو مآل كل ذي روح، ولكن فقدان تاريخ وطن هو كارثة جماعية لا يمكن تعويضها بشكل من الأشكال، ولاينبغي لها أن تفقد أصلاً.
الأمر هنا شبيه بما طرح في فيلم رجال الآثار "The Monuments Men 2014" حيث يتم تشكيل فريق من أهم آثاريي العالم للتحقيق والبحث في المخابئ التي أخفى بها هتلر آثار أوروبا التي سرقها إبان الحرب العالمية الثانية، وأثناء التحضير لخطة العمل، يطرح أحدهم السؤال المعتاد: ماقيمة الآثار إذا كانت الناس تموت.
ليجيب آخر، جواباً يشعر المشاهد معه أنه نابع من عمق جرحنا السوري: إنهم مخطئون تماماً، لأن هذا بالضبط ما نحارب من أجله، من أجل ثقافتنا وطريقة حياتنا.
يمكنك أن تمحو جيلاً كاملاً من الناس، أن تحرق منازلهم عن بكرة أبيها، ولكنهم بطريقة ما سيعودون مجدداً.
ولكن إن دمرت إنجازاتهم وتاريخهم فسيبدو الأمر وكأنهم لم يوجدوا أبداً، وكأنهم رماد في مهب الريح، وهذا ما يريده هتلر، وهذا أمر لن نسمح بحدوثه بكل بساطة.
*كاتب سوري - مساهمة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية