أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هل ننقذ سوريا؟ .. ميخائيل سعد

جنوب دمشق - عدسة شاب دمشقي

تذكرت منذ أيام سؤال امتحان القبول في دار المعلمين عام ١٩٦٥، بعد أن مضى عليه 50 عاماً. 

نحن في عام 2015، وأنا في غرفة الانتظار أمام عيادة طبيب الأسنان في مركز "عيادات الشام" في اسطنبول مع ثلاثة شبان ينتظرون دورهم أيضاً. 

ولأن الفوضى هي الأساس، كان الشباب يمضون وقتهم المهدور بالثرثرة والتعارف. هكذا علمت أنهم من حلب "الفقيرة"، وأنهم دون الخامسة والعشرين من العمر، وبالكاد يعرفون القراءة والكتابة، وأنهم مهنيون؛ أحدهم بناء، والآخر مليّس، أو زراق، والثالث يعمل في تركيب المطابخ. 

كان السؤال الذي طرحه عليّ، وعلى غيري، أحد أعضاء اللجنة الفاحصة: إذا كنتَ على شاطىء البحر ورأيت شابين يغرقان أحدهما مسيحي فرنسي والآخر مسلم عربي، ولا تستطيع أن تنقذ إلا واحداً منهما، فمن تنقذ؟ لم أكن، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، قادراً على القول إن هذا السؤال الافتراضي المفبرك يدل على غباء، أو خبث، اللجنة التي صاغته، لأن الأساس في الحياة والعملية التربوية هو إنقاذ الغرقى، وليس معرفة أديانهم، أو قومياتهم، قبل إنقاذ حياتهم. 

لم يهاجر الشبان الثلاثة إلى تركيا لأنهم كانوا مع الثورة، ولا لأنهم ضدها، وإنما لأن الحياة في مناطقهم قضى عليها المسلحون والبراميل الأسدية، فكان عليهم كي يحافظوا على حياتهم الانتقال إلى الطرف الآخر من الحدود، إلى تركيا أولاً، ثم إلى اسطنبول تحديداً. 

في حديثهم عن العمل في اسطنبول، كانت الشكوى من ساعات العمل التي تتجاوز دائماً 11 ساعة يومياً، وعلى مدى سبعة أيام في الأسبوع، إلا من كان منهم محظوظاً، فيعمل ستة أيام فقط براتب متوسط قدره ألف ليرة تركية شهرياً. 

كانوا يتندرون على معاملة الأتراك لهم، التي تشبه معاملة العبيد، أو الحيوانات، وكيف أن الأتراك يسرقون المساعدات الدولية التي يتم إرسالها إلى اللاجئين السوريين، ولا يصل شيء منها إليهم. 

استشهد أحدهم بما فعلته أمه، التي كانت بجانبه، للحصول على المساعدات، ولكنها فشلت. 

قالت الأم، معلقة على فشلها، قالوا لها إن هذه المخصصات للأتراك الفقراء، وليست للسوريين، وتابعت إنها تشكر الله لأن قذيفة قطعت فقط إحدى يدي ولدها الثاني، في حلب، ولم تقتله (لم تقل من أطلق القذيفة). 

يعمل ولدها الآن، بيده الوحيدة، في فرن للخبز ١٣ ساعة كل يوم، سبعة أيام في الأسبوع، لقاء ١٢٠٠ ليرة تركية. 

صياغة السؤال السابق، في امتحان القبول في دار المعلمين، هي في رأيي الأساس الذي تم بناء مجتمعنا عليه طوال حكم البعث عامة، وحكم الأسدين خاصة، منذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا. وصل الجميع في سوريا، بعد ما يقارب الخمس سنوات من الثورة والقتل، إلى إعادة طرح السؤال نفسه، بطرائق مختلفة، لكن الذي يغرق هذه المرة هو الوطن بكل مكوناته، ونحن نسأل بإلحاح هل هو "سني"، أو "علوي"؟ هل هو تقدمي، أو رجعي؟ هل هو "ائتلاف"، أو "هيئة تنسيق"؟ لقد نسي السوريون، مع تدفق شلال الدماء، وربما بسببه، السؤال الأساسي: هل نريد أن ننقذ وطننا، أم نتركه يغرق؟ السؤال الطائفي الذي جعله البعث مقياساً لاختيار معلمي سوريا قبلناه جميعاً، بل صفقنا له، وخضنا امتحانه ونجحنا فيه. 

لقد أرادنا النظام أن نكون طائفيين في السر، وعلمانيين في العلن، أن نطعن بعضنا بالسكاكين غير المرئية ونحن نعانق بعضنا، أن نقول إننا وحدويون أثناء تفتيتنا لوطننا، لتغطية انعزالنا وعزلتنا. 

بالمحصلة، إن عودة السؤال الذي طرحه البعث على السوريين الذاهبين إلى حقل التعليم يخفي كل عيوبنا، التي نعتقد الآن أنها إيجابيات. 

أحد الشباب الثلاثة قال: كان للسوري أيام زمان قيمة. كان الناس يخافونه. قلت له: متى وأين كان ذلك؟ قال إن صهره قال له: إن ذلك كان يحصل معه في لبنان. 

قلت له ربما كانوا يخافونه لظنهم أنه يعمل مع المخابرات الأسدية أيام زمان! استمر هذ الحوار ساعة ونصف، إلى أن جاء دوري فتركتهم لأدخل إلى غرفة الطبيب. 

لم أسمع منهم أي كلمة لها مدلولها الطائفي، ولم يتهموا طائفة بعينها بالتسبب في ما يحدث في سوريا. 

كانوا يعبرون بحرية عن متاعبهم اليومية، ويتذكرون سعادتهم المفقودة في سوريا، ويتمنون أن تعود.

لم يتطرقوا إلى الهجرة إلى الغرب، وكأنها غير موجودة في قاموسهم اليومي. كان حلمهم الكبير أن يعثروا على عمل أفضل يحققق لهم دخلاً مالياً كافياً للعيش الكريم. 

لاحظت أنهم اختلفوا أكثر من مرة على ما سموه "القواد" العسكريين الثوريين الذي وصلوا إلى تركيا بعد أن نهبوا كل شيء وصلت أيديهم إليه، وكانوا يلفظون أسماءهم، ويعرفون بعضهم. 

عدت مساء إلى البيت لأكتشف أن الوطن السوري حاضر فقط في عقول هؤلاء العمال البسطاء، أما عند نشطاء الفيسبوك وأصحاب البيانات الثورية فقد كانوا يعلكون في كلامهم سؤال النظام الطائفي الذي طرحه علينا عام ١٩٦٥، والذي كان يريد أن يكون السوريون على شكله ومثاله. 

وخطر على بالي السؤال التالي: إذا كنت على شاطىء العالم، ورأيت الوطن السوري يغرق وأنت لا تستطيع إنقاذه إلا مع كل طوائفه ومناطقه، هل تفعل ذلك أم تتركه يغرق ويموت؟؟؟

(148)    هل أعجبتك المقالة (154)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي