أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن تحولات لاجىء سوري.. ميخائيل سعد

سوريون على الحدود الهنغارية الصربية - وكالات

لن أكتب عن حق السوريين بالهرب من وطنهم بعد أن حوله نظامهم البهيمي إلى خرائب، ولن أكتب عن صعوبة "اللقاء" بين السوريين الذين هربوا إلى الغرب، فربما كان رصد ذلك أصعب من رصد تأقلمهم الذي سيكون صعبا جدا مع محيطهم الجديد.

لن أقدم النصائح لأحد، بصفتي لاجئا قديما، لأن لا أحد يتعلم إلا من كيسه، كما يقول المثل. 

تركتْ 26 سنة من اللجوء، الذي تحول إلى هجرة دائمة، آثارها على حياتي، ما مر منها وما سيمضي، ولن أقول متشائما، أو بهدف احباط الآخرين: إن الحنين إلى الوطن، نستحضره، فيما بعد، عند الخلاف مع زوجاتنا وطلبهن للبوليس لتأديبنا، وعندما يشق أولادنا عصا الطاعة، ولكن سرعان ما نلقيه وراء ظهورنا بعد أن نتعب من حمله، لأن حضور هذا الحنين وتداعياته، مكلف لنا إذا استمر طويلا. 

كما أنني لن أتفلسف وأتكلم عن اهتزاز الأرض وليونتها تحت أقدام المهاجرين بمجرد أن تطأ هذه الأقدام أرضا جديدة غير أرض الوطن، وستبقى كذلك حتى آخر لحظة في حياة هذا المهاجر أو المهجّر، لا فرق في ذلك.

سأكتب عن لاجىء سوري بعينه، دون أن أسميه، علما أن وضعه ينطبق على كثيرين غيره، رغم اختلاف بعض التفاصيل، هنا وهناك.

في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي ازداد عدد العرب في مونتريال بشكل عام، وكان عند السوريين بشكل خاص، رغم خوفهم من بعضهم، ميل واضح للتعارف والكلام بعد أن خرجوا من "سجن الوطن" حيث الكلام كان ممنوعا، لأن للجدران آذانا، ووجدنا أنفسنا كسوريين، بصدد تكوين النادي الكندي العربي، مع أغلبية سورية في المؤسسين، وفي الأعضاء. 

في ذلك الزمن وصل أحد السوريين إلى مونتريال، وكان قد مضى على تهجيره من سوريا حوالي 30 عاما. 

كان الرجل لاجئا في العراق ثم في الأردن وأخيرا في لبنان، ومن المعادين لبيت الأسد، فوجدنا فيه نصيرا لنا (للتقدميين). 

رافقت أحد الأصدقاء لزيارته في بيته ودعوته للانضمام للنادي، رحب بنا الرجل احسن ترحيب، واعتذر عن الانضمام للنادي، لأنه يخشى أن يؤثر ذلك على قبوله كلاجىء، وهو بحاجة لوطن بديل بعد كل هذه السنوات من الشنططة في البلدان العربية التي عجزت بأنظمتها عن قبوله كمواطن فيها، وهو الذي أمضى أغلب حياته داعيا لوحدتها، إلى أن وجد ثقبا استطاع الدخول منه الى كندا، فطلب اللجوء، وهو حريص جدا على أن يتم قبول طلبه. 

كان الاستقرار والحصول على جواز سفر كل ما تبقى في عقله وقلبه من أحلام. 

حاولت جاهدا إقناعه أن الانضمام للنادي، كذلك الكلام مع السوريين آخرين لن يؤثر على طلب لجوئه، ولكنه اعتذر، فقد كان "الخراب" يصول ويجول في نفسه، وكان خائفا من الاختلاط بالناس، وينظر إلى كل الأشياء والناس بمنظور أمني بحت. 

لقد عاصر وعاش زمن سيادة الأحلام الكبرى بتأسيس دولة الوحدة، وعايش عن قرب انهيار هذا الحلم، وسقوط حلم المقاومة الفلسطينية وتحولها من ثورة إلى دكاكين لبيع "الخردة". 

تركت الرجل وأنا حزين على نفسي، قبل حزني عليه، ولكن تابعت مع أصدقاء بناء النادي، الذي كنا نرى فيه خشبة خلاص في بحر الهجرة المتلاطم.

انتسب السوريون بحماس إلى النادي، وبنفس الحماس فرزوا أنفسهم، ليس إلى وطنيين وعملاء للنظام، وإنما إلى أديان وطوائف ومناطق وقبائل، ولم يكن ذلك بحد ذاته عيبا، فهم على صورة سوريتهم، ولكن العيب كان في أنهم اعتمدوا على عصبياتهم تلك في محاربة العصبيات الأخرى، ما أدى إلى موت النادي بعد سنة، وسمح للقريب العربي، والبعيد الأجنبي التدخل لإصلاح الحال، ولكن دون فائدة، فقد استسلم أغلبهم إلى فكرة قبول الموت، وهاجروا إلى كنائسهم وجوامعهم، علهم يعثرون على ما كانوا يفتشون عنه في النادي "العلماني" الميت، الذي اغتالوه بخلافتهم، ثم بدؤوا يلومون بعضهم، محملين الآخر المسؤولية.

في الزمن الضائع، بين تأسيس النادي، وبدايات الربيع العربي، كان صديقنا المهاجر "العروبي" قد استقر به المكان، ونال ما كان يحلم به، ووجد طريقه إلى "الكنائس" العربية، وعثر على من قاده من يده إلى سفارة النظام السوري، حيث تم "منحه" جواز سفر سوريا، وعاد بعد غياب أربعين عاما إلى سوريا، ليكتشف أن إخوته قد استولوا على أملاكه، وأن عودته أزعجتهم فحاولوا التخلص منه، فما كان منه إلا الاستنجاد بالنظام الذي فتح له ذراعيه وحصّل له حقوقه من إخوته.

بعد عودته من سوريا، رأينا تطورا جديدا في أفكاره، فقد أصبح مدافعا خجولا عن النظام، في بداية الأمر، ثم مدافعا مرّا عن "علمانية" النظام، بعد قيام الثورة، الذي أمضي عمره بانتظارها، ولكن خروجها من "الجوامع" جعله يقف منها موقفا حذرا، ثم موقفا معاديا بعد رفع الرايات الإسلامية بديلا عن علم الثورة.

لم ينفع كلامنا معه، وشرحنا لدور النظام في هذه اللعبة، كان قد اتخذ قرارا لا عودة عنه، وتركناه لفعل الزمن، الذي كان لمصلحة الأسد في عقله.

مع التغريبة السورية الكبرى، التي تجري فصولها ومراحلها المأساوية الآن، عاد صديقنا بحماس للعمل "الجماهيري" ولكن في صورته السيئة والمحزنة، فقد بدأ في حركة لا تهدأ لتسهيل هجرة المسيحيين السوريين عبر الكنائس العربية والكندية، مروجا للفكرة الغربية عن خطر "داعش"، وتهديده لحياة الأقليات، ومستفيدا من تصريحات وأعمال ما قام به ضد بعض المسحيين، ومتجاهلا في الوقت نفسه ما قام به داعش ضد المسلمين بالدرجة الأولى. لقد كان في نشاطه اليومي وكأنه ينفذ برنامجا أسديا-غربيا في تشويه صورة الثورة السورية. 

يساعده بعمله هذا، بشكل غير مباشر، سلوك وكلام بعض السوريين المسلمين الذين وصوا إلى الغرب، بوصفهم لهذا الغرب بالكافر والفاسق، وأن مساعدات الغرب لهم ما هي إلا بعض ما نهبوه من خيرات المسلمين...الخ. هذه محاولة للقول، عبر رصد حالة عيانية حقيقية، إن الإنسان متغير دائما، وكل ادعاء بثبات أفكار الإنسان هو ادعاء ضد منطق الحياة. 

وإن مسؤولية خراب الأوطان هي مسؤولية نخبه السياسية والثقافية بالدرجة الأولى، قبل أن تكون مسؤولية أديان وطوائف وقبائل هذا الوطن..

(139)    هل أعجبتك المقالة (139)

إبراهيم -سيدني

2015-09-19

ما بعرف كيف بدي اعلق على كلامك. نحن الشرقيين مشتتين ولا نتفق على رأي. وللاسف صار ظلم الدكتاتور هو اهون الشرين. للاسف بعض الناس اللذين قابلتهم في غربتي حسسوني انهم لهم ثار معي و لما صرنا في الغربة اجت الفرصة لتحصيل هذا الثار. بالمجمل بدل ان يكون الوطن هو القاسم المشترك صار هو المقسم المشترك..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي