سيبقى لداعش الفضل الكبير على السوريين خاصة والمسلمين عامة، فبفضل تشدده في فهم الإسلام، وتطبيقه لهذا الفهم دون تجميل أو مواربة مهما كان قاسيا، حرك مياه الاجتهاد الراكدة في عقول "العلماء" المسلمين، ودفعهم دفعا للبحث عن تفسيرات جديدة للإسلام تحفظ لهم "عروشهم" المعنوية التي تكاد فؤوس داعش أن تقتلعها من أمكنتها، وترمي بها في "البرية".
لذلك تكاثرت الدعوات لعقد المؤتمرات الإسلامية، جلها يسير أما باتجاه الفكر الداعشي، ولو بشكل يعتمد مبدأ "التقية"، مستخدما الكلمات التي تحمل إمكانية التأويل حسب المكان والطلب، والقليل منها يسير بالاتجاه المعاكس لخط سير داعش، ضاربا أكثر من عصفور بحجر واحد، ومنها المؤتمر الذي عقد قبل حوالي ثلاثة أسابيع في اسطنبول.
قبل فترة قصيرة وصلتني دعوة من الصديق العزيز الشيخ رياض درار للمشاركة، ولو بالحضور فقط، بمؤتمر عن الإسلام الديمقراطي، فقبلت الدعوة فورا دون تردد، وأنا الذي كان يهاجم المؤتمرات والمؤتمرين بلا هوادة.
وقد سألت نفسي، بعد إرسال موافقتي للصديق الشيخ: هل كان صراخي المكتوب، الذي يهاجم الجميع، يهدف إلى لفت الانتباه لشخصي، كي تتم دعوتي إلى هذه الندوات، وأنال حصتي من الكعكة السورية، إذا كان هناك كعكة أصلا، أم أنه محاولة مني ومن غيري للقول إننا نسير منذ بداية الثورة السورية بالدروب الخاطئة، وإن هذه الدروب الفكرية والممارسات اليومية ستقودنا فقط إلى حضن أمريكا، التي كانت راعية كل شيء تقريبا في سوريا، منذ وصول الأسد إلى السلطة عام 1970 وحتى الآن.
استعدادا من قبلي للمساهمة في يومي مؤتمر الإسلام الديمقراطي، قررت أن تكون "أسلحتي" جاهزة، و"سكاكيني" مسنونة، رغم التوجه الديمقراطي الذي تبناه المشرفون عليه، بل ربما بسبب "سلميته" بالتحديد، فعلت ذلك. ففي أجواء الدعوات الحربية وقرقعة السلاح لا خبزة لي، لأن أمراء الحرب من عسكريين وسياسيين، هم سادة المواقف، وليس لديمقراطي مسكين مثلي مكان في ساحات القتال.
ويشاء حظي التعيس أن ينكسر الضرس الذي يحمل "فك" أسناني السفلي، وهو عمادي في الحروب، قبل المؤتمر الدسم بيومين.
بحثت بمساعدة أصدقاء عن طبيب أسنان يمكنه أن ينجدني في ورطتي هذه، فكانت "عيادات الشام" في "الفاتح" هي المكان الأنسب لي ماليا، ويوجد فيها كل الاختصاصات الطبية، فأنا سأكون بحاجة لطبيب أذنية للتأكد من سلامة سمعي أيضا، لأن السلاح الأهم في هذه المعركة "الديمقراطية" سيكون الكلام، الذي يجب فهمه على حقيقته، كما سيقوله الخطباء، وليس كما سيفهمه المشاركون، كل على طريقته، وحسب مسالك السمع في أذنيه، التي قد تكون "مصطومة" بالصمغ أو الشعر الكثيف عند كبار السن أمثالي، في الموعد المحدد مع طبيب الأسنان، كنت في طريقي إلى العيادات لإصلاح "فك أسناني السفلي" المكسور، فشردت بي الأحلام إلى الفندق الذي سيستضيف دعاة "الإسلام الديمقراطي" وأنصارهم، وتخيلت كل أنواع الطعام "الحلال" وهي أمامي، مفروشة في الصواني بأحلى أشكالها، طازجة، يتصاعد منها البخار، وتفوح منها روائح البهارات، يغطي بعضها الصنوبر واللوز المقلي، ويتنافس "ديمقراطيا" على سكبها في الصحون الزملاء، وقد وصل الأمر بخيالي إلى درجة إحساسي بأن رائحة هذه الأطعمة وبخارها قد تصاعد ووصل إلى أنفي وعيني، فغشي بصري ولم أنتبه، أو ربما لم أرَ حافة الرصيف، ووجدت بعدها جسدي ممددا على الأرض ويداي تحميان وجهي، إلى أن سارع رجلان ورفعاني عن الأرض.
في العيادات الطبية، وكانت يدي اليمين قد بدأت تتورم، وجدت طبيب العظيمة أمامي فرجوته أن يعاين يدي، قال الرجل، بعد أن تلمس الكف، حيث التورم، عندك كسر، يجب تصوير اليد غدا والعودة إلى هنا لإجراء اللازم، بعد أن أعطاني مسكنا للألم وأحالة إلى مركز التصوير الشعاعي.
وعندما قابلت طبيب الأسنان، وبعد الفحص، قال: يجب خلع ما تبقى من الضرس المكسور أولا، وإعادة تلبيس الأضراس الثلاثة المتبقية في فمك بالبورسلان، ثم صناعة فك سفلي جديد يتناسب معهم، وهذا يستغرق ستة أسابيع.
عندما عدت إلى البيت كان أول ما قمت به أن كتبت رسالة اعتذار إلى الصديق الشيخ رياض درار، شارحا له الوضع، ومتمنيا لهم التوفيق في عملهم الطموح، على عادة المجاملات المتبعة في هذه المناسبات.
بعد ذلك، أعملت فكري، وقررت أن يكون سبب غيابي عن المؤتمر كبيرا بحيث يشد انتباه الإعلام من جهة، وأصبح حديث الناس لأيام قادمة، وربما كي أدخل التاريخ، ولو تزويرا، لذلك نشرت صباح اليوم التالي إشاعة مفبركة، ولكنها قابلة للتصديق، تقول إن أحد الدواعش قرر التخلص مني، لهجومي المتكرر على العقل الداعشي المنتشر في جميع الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية.
ولقد اخترت إلصاق التهمة بداعش لعدة أسباب، منها؛ إضفاء الأهمية على ذاتي من خلال اختيار خصم مخيف كداعش، ثانيا أن كل عمل غير معقول وغير مفهوم يحدث في سوريا وغيرها يتم نسبه إلى داعش للغمغمة، وعدم البحث عن الفاعل الحقيقي، ثالثا للقول للناس، رغما عنهم، إن داعش هي ضد خياراتكم في الحياة، فعليكم أن تنحازوا إلينا وتكونوا وراءنا، فنحن الوجه الحضاري للإسلام، أما داعش فهي الوجه المظلم.
أما السبب الأخير الذي جعلني أتهم داعش بكسر يدي، هو رغبتي في تلقي تهديدات داعشية عبر الهاتف أو الرسائل الإكترونية، كما فعل كثير من "المعارضين" لعلي ألفت أنظار الغرب لي وخاصة الأمريكان منهم، فيقترحون علي تمويل بعض المشاريع "الزعبرجية" كي أقبر الفقر بعدها.
هذه الإشاعة كانت للإعلام الثوري كي يتسلى بها، أما الإشاعة الداخلية للأهل والأصدقاء فقد أوجزتها إلى ابني رامي، عندما اتصل ليطمئن علي، كتبت على صفحتي الفيسبوكية:اتصل بي ابني ليطمئن على صحتي، فقد أخبرته والدته إنني وقعت وكسرت يدي، فقال: كيف حصل الأمر ووقعت؟ قلت له: خلي الحكي بيناتنا، مرت أمامي اسطنبولية ساحرة، فتابعتها بنظراتي وأنا ملتفت إلى الوراء، وفجأة فقدت توازني وسقطت أرضا، وعرفت بعدها أن كسراً قد أصاب مشط اليد اليمين.
قال ضاحكا: بس ايد واحدة انكسرت؟ وعرفت أنه يقول ما تتمناه لي أمه.....ومع ذلك ضحكت وشكرته على اهتمامه......أخيرا، أختم كلامي هذا برأي شفوي لأحد المفكرين السوريين، تعليقا له على مؤتمر الإسلام الديمقراطي، قال: أعتقد أن من سيقوم بالإصلاح الديني في الإسلام هم المتشددون كالبغدادي او الجولاني، وليس دعاة الوسطية.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية