قبل ما يقارب العامين زرت اسطنبول للمرة الأولى، للمشاركة في أحد مؤتمرات المعارضة السورية، حيث أمضيت فيها أياما قليلة، قررت بعدها أن أعود للمدينة لقضاء فترة أطول ليس من أجل السياسة، وإنما لأتعرف على الآثار العثمانية، التي أدهشتني بجمالها وعظمتها.
ولما كانت معلوماتي ضعيفة أو معدومة، في هذا المجال، قررت ترميم "خرائبي" الثقافية التي بنيتها في ظل حكم البعث القومجي، الذي كان ينظر إلى كل ما سبقه من تاريخ سوريا نظرة استصغار وعداء بهدف تضخيم نفسه، وإعلاء شأنه.
قرأت بعض الكتب عن التاريخ العثماني، وشاهدت مئات الساعات من الأعمال الفنية التركية كي أتعرف على المجتمع التركي قديمه وحديثه، على عاداته اليومية وأنماط تفكيره، ومن بين تلك الأعمال الفنية الدرامية مسلسل "وادي الذئاب"، حيث تعرفت على "برج البنت"، كمكان له دلالاته الأسطورية عن الحب، فوضعت المكان ضمن قائمة الأماكن التي يجب زيارتها، في زياراتي لاسطنبول.. تكلمت مع أكثر من صديق وصديقة عن برج البنت، وكيف تحول، عبر مئات السنين إلى مكان تراكمت فيه بعض الأساطير المتعلقة بالحب، محاولا إقناعهم بمرافقتي لزيارة المكان، فربما نستعيد بعض ما خسرناه من فرص الحب، لمجرد زيارتنا، ولكنني فشلت في "بعث" حب الفضول في قلوبهم للتعرف على أساطير العشاق، وقدرت أن تحولا عميقا حدث ويحدث يوميا في أعماق السوريين، يدفعهم للتخلي عن أساطير الحب لصالح أساطير الكره والحقد، والغرق في عشقهم للبطل الذي يقتل عددا أكبر من أبناء الوطن، أو للسلاح.
أخيرا استطعت أن أقنع علي وسهير بمرافقتي، وحدثت الزيارة.
يقع "برج البنت" داخل البحر، على بعد 200 متر تقريبا من منطقة أوسكودار، في القسم الآسيوي من اسطنبول.
وتقول الروايات إنه تم بناؤه على جزيرة اصطناعية في مياه مضيق البوسفور، وإن أسلوب بناء البرج يعود إلى تاريخ 341 قبل الميلاد، ولكن أسلوب تجديد بنائه حعله قريب الشبه ببناء برج غلاطة الذي بناه الجنويون في عام 1348.
كان اسم البرج قديما "داماليس ولياندروس"، وهو اسم زوجة ملك اثينا، التي دفنت على الشاطىء، وسمي البرج باسمها.
أما في العهد البيزنطي فقد أصبح اسمه "اركلا"، وهو يعني القلعة الصغيرة. في عام 1725 تمت إعادة بناء البرج من الججر، بعد أن احترق البناء الخشبي.
ورغم الاستخدامات المتنوعة للبرج، من مكان لجمع الضرائب من السفن التجارية، ومن أجل الدفاع عن المدينة، كما تم استخدامه كمشفى لعزل مرضى الكوليرا، ومحطة إذاعة، رغم ذلك، فقد كان أشهر ما ميز المكان هي أساطير الحب التي جعلته من الأماكن التي يقصدها الزوار، ويمكن عرض أشهرها، وهي التي تم رسم مشاهد عنها في البناء الحديث الذي زرناه. أسطورة لياندروس: تقول الأسطورة، إنه كان هناك شاب اسمه لياندروس يحب راهبة من أفروديت اسمها هيرو كانت تعيش في البرج، ولأن الحب كان محرماً علىها، كان الشاب لياندروس يسبح كل ليلة إلى البرج من أجل لقاء هيرو، وكانت هي تشعل له النار لهدايته إلى البرج.
وفي ليلة عاصفة تنطفئ النار التي تشعلها هيرو، ويفقد الشاب طريقه ويضل في البحر ويموت، وما إن تسمع هيرو بخبر موت لياندروس حتى تقرر الانتحار.
أسطورة الأميرة: تحكي هذه الأسطورة، إنه في احد الأيام كان هناك منجمة تتنبأ لكل امرأة في المدينة بأن ابنتها ستموت بلدغة أفعى، إلى أن تنبأت بذلك لزوجة الملك أيضا، فيقوم الملك الذي كان يحب ابنته كثيرا، ببناء هذا البرج وسط البحر، فعمل على ردم جزء من مضيق البوسفور ليبني عليها برجاً بارتفاع ستة طوابق تطل نوافذه على جهة اليابسة، وخصص القوارب لنقل الطعام والملابس إلى البرج كل يوم ،الذي أصبح مقرا لإقامة ابنته لمدة ثمانية عشر عام وفي يوم من الأيام تخرج أفعى من سلة الفاكهة، التي تدخل إلى البرج فتلدغ الفتاة وتقتلها.
أسطورة باطال غازي: يقال إن المقاتل باطال غازي كان يحب ابنة تكفور الذي كان يرفض أن يعطي ابنته له، ومن أجل ذلك يضع ابنته في البرج.
يقوم بعدها بطال غازي بمهاجمة البرج وخطف الفتاة، إذ يركب حصانه ويهرب بعيداً عن منطقة اوسكودار.
من الواضح أن أساطير برج البنت تحاول تفسير سبب وجود هذا البناء وسط مياه خليج البوسفور، وقد قام الرواة أو الشعراء بنسج الأسطورة حول شخصية عظيمة، فكانت في الأولى راهبة منذورة للآلهة، وكان عقابها الموت لأنها تجاوزت الممنوعات.
وفي الثانية كانت ابنة ملك حاول بدوره تغيير قدر ابنته، هذا القدر الذي رسمته الآلهة، فكان موت الفتاة درسا للناس الذين قد يفكرون بتغيير أقدارهم، قبل أن يكون درسا للملك.
أما في الثالثة، فنلاحظ انتصار البطل، وهو النموذج الذي كان يحبه العثمانيون، ويرون فيه نموذجهم الذي فتح لهم القسطنطينية ألا وهو محمد الفاتح.
أخيرا، أرى أن مسلسل "وادي الذئاب"، في اختياره للبرج، في مشاهد متعددة ومتكررة، ليس فقط مع بطل المسلسل مراد علمدار، في قصص حبه، وإنما مع أبطال ثانويين، هي لعبة ذكية في استخدام الموروث الشعبي التركي للوصول إلى عقل وقلب المشاهد التركي، كي يقبل الأفكار الايديولجية التي ينادي بها المسلسل، ألا وهي ايديولوجية حزب العدالة والتنمية الحاكم.

*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية